بسم الله الرحمن الرحيم

هل الأشجارُ من ذواتِ الأرواح ؟


الحمدُ للهِ وبعدُ ؛

أخي الحبيب ؛ يبدو أنهُ حصل عندك لبسٌ في لفظةِ " الروحِ " ، فالإنسانُ والحيوانُ يطلقُ عليهما من ذواتِ الأرواحِ ، لأن الروحَ دابةٌ فيهما ، فإذا نزعت الروحُ ، صار جثةً هامدةً لا حراك فيها ، أما الأشجارُ فيطلقُ عليها ما لا روح فيه ، ولو أنها من مخلوقاتِ اللهِ ، بل ربما تكونُ أفضلَ من الإنسانِ من جهةِ عبوديتها للهِ ، فالعبرةُ بوجودِ الروحِ فيها .

وهذا ما يفهمُ من نصوصِ السنةِ الواردةِ في البابِ ، ومن ذلك :

1 - عن أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ : قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : " أَتَانِي جِبْرَيلُ فَقَالَ : " إنّي كُنْتُ أَتَيْتُكَ البَارِحَةَ فَلَمْ يَمْنَعَنِي أَنْ أَكُونَ دَخَلْتُ عَلَيْكَ البَيْتَ الّذِي كُنْتَ فِيهِ إِلاّ أَنّهُ كَانَ في بَابِ البَيْتِ تِمْثَالُ الرّجَالِ ، وَكَانَ في البَيْتَ قِرَامُ سِتْرٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ ، وَكَانَ في البَيْتِ كلْبٌ . فَمُرْ بِرَأْسِ التّمْثَالِ الّذِي بِالْبَابِ فَلْيُقْطَعْ فَليَصِيرَ كَهَيْئَةِ الشّجَرَةِ ، وَمُرْ بِالسّتْرِ فَلْيُقْطَعْ وَيُجْعَلُ مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ مُنْتَبِذَتَيْنِ تُوطَآنِ ، وَمُرْ بِالْكَلْبِ فَيُخْرَجْ . فَفَعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وَكَانَ ذَلِكَ الْكَلْبُ جِرْواً لِلْحُسَيْنِ أَوْ للحَسَنِ تَحْتَ نَضَدٍ لَهُ ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ " .

رواهُ أبو داود (4158) ، والترمذي (2806) وقال : " هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ " ، والحديثُ أصلهُ في الصحيحين مختصراً .

والشاهدُ من الحديثِ قولهُ صلى اللهُ عليه وسلم : " فَمُرْ بِرَأْسِ التّمْثَالِ الّذِي بِالْبَابِ فَلْيُقْطَعْ فَليَصِيرَ كَهَيْئَةِ الشّجَرَةِ " . فقطعُ الرأسِ يجعلها تشبهُ الشجرة ، لأنه بقطعِ الرأسِ تخرجُ الروحُ فيصير جماداً لا حراك فيه .

2 - عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ : إِنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ، فَأَفْتِنِي فِيهَا. فَقَالَ لَهُ: ادْنُ مِنِّي . فَدَنَا مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: ادْنُ مِنِّي . فَدَنَا حَتَّىَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَىَ رَأْسِهِ ، قَالَ : أُنَبُّئُكَ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ ، يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْساً ، فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ " . وَقَالَ : إنْ كُنْتَ لاَ بُدَّ فَاعِلاً فَاصْنَعِ الشَّجَرَ ، وَمَا لاَ نَفْسَ لَهُ ، فَأَقَرَّ بِهِ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ .

رواهُ البخاري (2225) ، ومسلم واالفظ له .

قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ في " الفتاوى " (29/370) : " ولهذا يفرق بين الحيوانِ وغيرِ الحيوانِ ، فيجوزُ تصويرُ صورة الشجر والمعادنِ في الثيابِ والحيطانِ ونحو ذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من صور صورةً كُلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخٍ " ، ولهذا قال ابنُ عباسٍ للمستفتي الذي استفتاهُ : " صور الشجرَ ما لا روح فيه " . وفي السنن عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن جبريل قال له في الصورةِ : " فَمُرْ بِالرَأْسِ فَلْيُقْطَعْ " ، ولهذا نص الأئمةُ على ذلك ؛ وقالوا : " الصورةُ هي الرأسُ ، لا يبقى فيها روح ، فيبقى مثل الجمادات " .ا.هـ.

وقال الحافظُ ابنُ حجرٍ في " الفتح " (10/408) : " كذا أطلق وظاهره التعميم فيتناول صورة ما لا روح فيه ، لكن الذي فهم ابن عباس من بقية الحديث التخصيص بصورة ذوات الأرواح من قوله : " كلف أن ينفخ فيها الروح " فاستثنى ما لا روح فيه كالشجر " .ا.هـ.

وعلى الرغمِ من وضوحِ الأدلةِ المخصصةِ المجيزةِ لتصوير ما لا روح فيه فقد اختلف فيها أهلُ العلمِ على أقوالٍ :

القولُ الأولُ :
جوازُ تصويرِ ما لا روح فيه من الجبالِ والأشجارِ والأوديةِ والكواكبِ كالشمسِ والقمرِ والنجومِ وسائر الأفلاكِ .

ويستثنى ما إذا صورت هذه المخلوقاتُ ، أو بعضها بقصدِ العبادةِ لها من دونِ اللهِ فحينئذٍ يحرمُ تصويرها .

وهذا القولُ هو رأي جمهورِ أهلِ العلمِ ، قال الإمامُ النووي في " شرح مسلم " (14/81 - 82) : " قال أصحابنا وغيرهم من العلماءِ : تصويرُ صورة الحيوان حرام شديد التَّحريم ، وهو من الكبائر ، لأنَّه متوعَّد عليه بهذا الوعيد الشَّديد المذكور في الأحاديث ، وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره ، فصنعته حرام بكلِّ حالٍ لأنَّ فيه مضاهاة لخلق اللهِ ، وسواء ما كان في ثوب ، أو بساط ، أو درهم ، أو دينار ، أو فلس ، أو إناء ، أو حائط أو غيرها . وأمَّا تصوير صورة الشَّجر ، ورحال الإبل وغير ذلك ممَّا ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام ، هذا حكم نفس التَّصوير .

وأمَّا اتِّخاذ المصوّر فيه صورة حيوان فإن كان معلَّقاً على حائط ، أو ثوباً ملبوساً ، أو عمامة ونحو ذلك ممَّا لا يعدُّ ممتهناً فهو حرام ، وإن كان في بساط يداس ، ومخدَّة ووسادة ونحوها ممَّا يمتهن فليس بحرام ، ولكن هل يمنع دخول ملائكة الرَّحمة ذلك البيت ؟ فيه كلام نذكره قريباً إن شاء اللَّهُ ، ولا فرق في هذا كلُّه بين ما له ظلٌّ ، وما لا ظلَّ له ، هذا تلخيص مذهبنا في المسألة . وبمعناه قال جماهير العلماء من الصَّحابة ، والتَّابعين ومن بعدهم ، وهو مذهب الثَّوريُّ ، ومالك ، وأبي حنيفة وغيرهم " .ا.هـ.

واستدلوا بالأدلةِ التي ذُكرت آنفاً . وهو الرأي الراجحُ .

القولُ الثاني :
التحريم ، وممن ذهب إلى هذا القول القرطبي وجماعةٌ .

واستدلوا :
قال تعالى : " مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا " [ النمل : 60 ] .

قال الإمامُ القرطبي عند تفسير الآية : " قلت : وقد يستدلُ من هذا على منعِ تصويرِ شيءٍ سواء كان له روحٌ أم لم يكن ؛ وهو قول مجاهد . ويعضده قولهُ صلى الله عليه وسلم : " قال الله عز وجل : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرَّة، أو: ليخلقوا حبَّة، أو شعيرة " رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة ؛ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله عز وجل ... فذكره ؛ فعم بالذمِ والتهديدِ والتقبيحِ كل من تعاطى تصوير شيءٍ مما خلقه الله وضاهاه في التشبيه في خلقه فيما انفرد به سبحانهُ من الخلقِ والاختراعِ هذا واضح .

وذهب الجمهورُ إلى أن تصويرَ ما ليس فيه روح يجوز هو والاكتساب به . وقد قال ابن عباس للذي سأل أن يصنع الصور : إن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له " خرجه مسلم أيضا . والمنع أولى والله أعلم لما ذكرنا ".ا.هـ.

القولُ الثالثُ :
تحريمُ تصويرِ ما عبدهُ المشركون كالشمسِ والقمرِ والنجومِ ، وبعضِ الأشجارِ ، والأحجارِ التي عبدت في الجاهليةِ ، وممن ذهب إلى هذا القول أبو محمد الجويني .

واستدل : أن في تصويرها وسيلةً إلى عبادتها بالقولِ ، والفعلِ ، والاعتقادِ مرة ثانية ، فالواجبُ منعُ تصويرها سداً للبابِ .

ولكن يقالُ : إنها إذا صورت لغرضِ عبادتها فإنه يحرمُ ، لأنها أصبحت وسيلةً إلى الشركِ باللهِ ، والوسائل لها أحكامُ المقاصدِ كما قال الأصوليون .

القولُ الرابعُ :
الكراهةُ ، وذهب إلى هذا القولِ أبو سليمان الخطابي .

قال في " أعلام الحديث " (3/2160) : " فأما النقاشُ الذي ينقشُ أشكالَ الشجرِ ، ويعملُ التداوير ، والخواتيم ونحوها ، فإني أرجو ألا يدخل في هذا الوعيد ، وإن كان جملة هذا البابِ مكروهاً ، وداخلاً فيما يلهي ، ويشغلُ القلب بما لا يغني .

هذا ملخصُ الأقوالِ في المسألةِ ، والراجح منها هو القولُ الأولُ لقوةِ الأدلةِ وصراحتها في المسألةِ ، وقد لخصتها من كتابِ " أحكام التصوير في الفقهِ الإسلامي " ، تأليف : محمد بن أحمد بن علي واصل . واللهُ أعلمُ .

كتبه
عَـبْـد الـلَّـه بن محمد زُقَـيْـل

الصفحة الرئيسة      |      صفحة الشيخ