بسم الله الرحمن الرحيم

عُلَمَاءُ العِرَاقِ وَالدَّوْلَةُ العَلْمَانِيَّةُ
سُلَيْمَانُ الظَفِيري


تَمْهِيدٌ :
بَعْد رَحِيلِ العثمانيين عن العِرَاقِ وسُقُوْطِهِ في قَبْضَةِ الاستعمارِ البريطاني شهد تكوينَ حكومةٍ هشةٍ على رَأْسِهَا فَيَصِلُ بنُ الحُسَيْنِ [ 1883-1933 ] لَيَكُوْنَ مَلِكاً شكلياً على عرشِ العِرَاقِ ، وموظفاً في الحكومةِ البريطانيةِ حقيقةً ، وقد نودي به مَلِكاً على العِرَاقِ في 32 آب 1921م ، واستمر حكمُ أَسَرَتْهِ وَأَبنَائِهِ إلى سنةِ 1958م ؛ حيثُ قَامَتْ مجزرةُ الهَاشِمِيِّينَ . ثم جاء العَهْدُ الجمهوري وَاسْتَمَرَّ إِلَى الآنَ ؛ وقد تَمَيَّزَ هذا العَهْدُ بالانقلاباتِ العسكريَةِ والمجازرِ الدمويةِ الرهيبةِ ، تَخْرِيْبِ الأَخْلاَقِ ، ومُحَارَبَةِ الإِسْلاَمِ ، والتآمرِ عليهِ ، وقتلِ علمائهِ ، وجعلِ الدِّيْن في زَّوَايَا ضَيِّقَةٍ مِنَ الحَيَاةِ .

وَهَذِهِ الفَتْرَةُ الطَّوِيْلَةَ الَّتِي تشملُ حُكمَ الهَاشِمِيِّينَ تحت الحِرابِ الإنجليزيةِ ، وكذلك العَهْدُ الجمهوري بعُهُوْدِهِ الثَّلاَثَةِ [ القَاسِمِيّ ، العارفي ، والتَّكْرِيْتِيُّ ] هي مقصدِي بِالدَّولَةِ العَلْمَانِيَّةِ ، وهي عَلْمَانِيَّةُ بِكلِ مَا تَحَمَّلهُ الكَلِمَةُ من حربٍ للإِسْلاَمِ وتحجيمٍ لدورهِ ؛ كما سنرى .

مَنْزِلَةُ عُلَمَاءِ العِرَاقِ قبل العَهْدِ العَلْمَانِي :
كَانَ العُلَمَاءُ على العَهْدِ العُثْمَانِيِّ الإِسلاَمِيِّ محلَ احْترَامِ الوَالِي ومُسَاعِديهِ ، وَكَانُوا محلَ المَشُوْرَةِ والنُّصْرَةِ والتأييدِ ؛ فَالشَّيْخُ عبدُ اللهِ السُّوَيْدِيّ وهو جدُ الأسرةِ السويديةِ في العِرَاقِ اسْتَدْعَاهُ الوَالِي العُثْمَانِيّ لِلْمُنَاظَرَةِ الشَّهيرَةِ التي رغب بها دَوْلَةُ الوَالِي مع عُلَمَاءِ شاهِ إيران ، وهي التي دَارَتْ في مَسَائِلَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالشِّيْعَةِ ، دان فِي نِهَايَتِها كَبِيْرُ عُلَمَاءِ الشِّيْعَةِ للسُّوَيْدِيّ رَحِمَهُ اللهُ [1] .

وقد كَانَ العَلاَّمَةُ مُحَمَّدُ فيضي الزهاوي ( 1797- 1890 ) وَالعَلاَّمَةُ أَبُو الثَّنَاءِ الآلُوْسِيُّ ( 1217- 1270 م ) من المُقَدَّمِيْنَ عند وُلاَةِ العِرَاقِ العُثْمَانِيينَ وهم أهلُ الفُتْيَا ، وَالقَضَاءِ ، وَشُيُوْخ العُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ ، وَلَهُمْ مَكَانَةٌ واحْترَامُ الدَوْلَةِ وَالعَامَّةِ ، وَقَدْ كَانَتْ العنَايَةُ بالعُلَمَاءِ الوَافدين لِنَشْرِ العِلْمِ فِي العِرَاق جَارِيَةٌ وَقَائِمَةٌ ؛ فَالشَّيْخُ غُلاَمُ رَسُوْل الهِنْدِيّ ( 1912 م ) أُعْطِيَ مَكَانَةً مرموقةً ، واسْتَمَرَّ على ذلك حتى وَفَاتِهِ ، بل كان المتطوعون لخدمتهِ كُثراً ؛ لأنهُ غَرِيْبٌ لا أهل له ، وَالعَلاَّمَةُ الشَّيْخُ مَحْمُوْدُ شُكْرِي الآلُوْسِيُّ (1857- 1942م ) كان رَسُوْلَ السُّلْطَان العُثْمَانِيّ إلى المَلِكِ عَبْدِ العَزِيْزِ آل سُعُوْد خِلاَل الحَرْبِ الأُوْلَى ، وَالسُّلْطَانُ العُثْمَانِيُّ جعل بلاَطَهُ وإِكْرَامِهُ لمن قدم عليه من عُلَمَاءِ العِرَاقِ وَغَيْرِهِم .

وَلَكِنْ لما سيطر العَلْمَانِيون على أرضِ الرافدين قَرَّبُوا المتهمين فِي دِيْنِهِم والمنحرفين ، قَرَّبُوا الصُّوْفِيَّ وَقَرَّبُوا المُبْتَذَلَ ؛ حتى كان وَزِيْرُ الأَوقَافِ على عهدِ فَيَصِل أَوَّلَ رَجِلٍ تَخْرُجُ ابْنَتَهُ وَتُجَالِسُ الرِّجَالَ وتُدَرِّسُ في كُلِّيَّةَِ الحُقُوْقِ وهي صَبِيْحَةُ الشيخ داود ( 1912- 1975 م ) ، وقد كَانَت فخريةُ سَعِيْد زَوْجَةُ جَعْفَرٍ العَسْكَرِيّ المُرَبِّي للمَلِكِ نجل المَلِكِ فَيَصِل تَدْخُلُ لندن سَافِرَةً من غيرِ حِجَابٍ ، كاسِيَةً عَارِيةً .

وكان يَحْظَى كلٌ من الشَّاعِرِ الضَّالِّ جَمِيْل صِدْقِي الزهاوي ، والشَّاعِرِ العَلْمَانِي مُحَمَّد مَهْدِيّ الجواهري بِقَدَرِ عالٍ من الاحْتِرَامِ وَالتَّبْجِيلِ ؛ بِخِلاَفِ عُلَمَاءِ السّنّةِ الَّذِيْنَ أسيئت معاملتهم ، ولم يَتَبَوَّأُ أحدٌ منهم الوَزَارَةَ في حين تولى الوَزَارَةَ مِن الشِّيْعَةِ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ الصَّدْر ( 1883- 1965م ) وَرُسْتُمَ حَيْدَر وهو من شِّيْعَةِ لُبْنَانَ ، وَتَوَلَّى رِئَاسَةَ مَجْلِسٍ النُّوَابِ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ رضا الشَّبِيْبِيُّ ( 1889-1965م ) .

كان المُخَطَّطُ محبوكاً بِقصدِ إِبْعادِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ مِن الوَظَائِفِ الكَبِيْرَةِ ، وَحَصَرِهِم في وَظَائِفِ الأَوقَافِ .

وقد بلغ الاسْتِهْتارُ دَرَجَةً عَالِيَةً في العَهْدِ الهَاشِمِيِّ بِالعُلَمَاءِ وتهميشِ دورهم ؛ فكم من المَرّاتِ تم إغْلاقُ جمعيةِ الْأُخُوَّةِ الإِسلاَمِيَةِ ، وسحب امْتِيَازُ مجلتها ، وكان صَاحِبُ الامْتِيَازِ مُحَمَّدُ مَحْمُوْد الصَّوَّافُ رَحِمَهُ اللهُ .

أما في العَهْدِ الجُمْهُورِيِّ فقد نال العُلَمَاءُ السِّجْنَ َوَالتّعْذِيبَ وَالإِعدَامَ ، فالعَلاَّمَةُ أمجدُ الزهاوي ( 1882 - 1967م ) سجنهُ عبدُ الكريم قاسم ، ثم بعد ذلك ترك العِرَاقَ مع الشَّيْخِ الصواف ، وهكذا العَلاَّمَةُ فُؤَادُ الآلُوْسِيُّ ( 1321 ـ 1384هـ ) سَجَنَه قَاسِمٌ الذي قام بحلِ الحِزْبِ الإِسلاَمِيِّ ووإلْغَائِهِ ، وإلْغَاءِ صَحِيْفَةِ " الحِياد " ، وصَحِيْفَةِ " الحِزْبِ " ، وكذلك صَحِيْفَة " السِّجِلِّ " للأُسْتَاذِ طه الفَيَّاضُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى .

وفي العَهْدِ البَعْثِي قُتل من أَعْلاَمِِ الحَرَكَةِ الإِسلاَمِيَة : الشيخُ عَبْدُ العَزِيْز البَدْرِيُّ ( 1930- 1969م ) والأُسْتَاذان العَسْكَرِيُّان : مُحَمَّدُ فرج الجاسم ، وَعَبْدُ الخَالِقِ السَّيِّد عُثْمَان ، وَالمَشَايِخ : مَحْمُوْدُ أَبُو سعدَةَ ، والشيخُ تَلْعَة ، وغيرهم ؛ هذا غير الَّذِيْن تَرَكُوا العِرَاقِ ، و فَرُّوا مُسْتَوْطِنين بِلاَداً أُخْرَى ، وتَرَكُوا بِلاَدَهُم كالشَّيْخِ مُحَمَّدُ مَحْمُوْد الصَّوَّافُ يَرْحَمُهُ اللهُ .

تجميدُ الأَوقَافِ الإِسلاَمِيَةِ وتحجيمُ المَدَارِسِ الإِسلاَمِيَةِ :
أَمَّا الأَوقَافُ الإِسلاَمِيَةُ فقد كَانَتْ تَشْمُلُ عَدَداً كَبِيْراً جداً من البنايات ، وَالبَسَاتِيْنِ ، والدَّكاكينِ ، فالأَوقَافُ الكيلانية أُوْكَلْت إلى آلِ النَّقِيْب ، وهي ضَخْمَةٌ جداً ، وآلُ النَّقِيْب مَشْهُوْرُوْنَ أَيَّامِ الهَاشِمِيِّينَ بِالقُرْبِ مِنْهُم ، ولا يُعْرَفُ أن أَحَداً مِنْهُم مِن العُلَمَاءِ بل كان مِنْهُم شَّيْخُ الصُّوفِيَّةِ .

و كَانَتْ الدَّوْلَةُ العُثْمَانِيِّةُ تَحْرِصُ على أن لاَ تَكُوْنَ الأَوقَافُ وِزَارَةً يَرتَقِي إِلَيْهَا أَحدٌ مِن غيرِ أهلِ السُّنَّةَ ؛ فَيَذْهَبُ شرطُ الوَاقفِ ؛ لكن العَهْدَ العَلْمَانِيّ غيّر إِدَارَة الأَوقَافِ إلى وِزَارَةٍ قَامَتْ بتَضْيِيعِ الأَوقَافِ والْإِشْراف على تَّبديدِ أَمْوَالهَا وإِضاعةِ شرطِ الوَاقفِ .

كَانَتْ هذه الأَوقَافُ مَصْدَرَ تَمْوِيلِ المَدَارِسِ الإِسلاَمِيَة ، وَالقَائِمِيْنَ عَلَيْهَا من العُلَمَاءِ وَغَيْرِهِم ، الأَمْرُ الَّذِي أَغْنَى عُلَمَاءنَا وَجَعَلَهُم بعيدين عن الحَاجَةُِ إلى غَيْرِهِم .

والقادةُ العَلْمَانِيَّون إدْراكاًً مِنْهُم لأهميةِ هذهِ المؤسَّسةِ ودورها في تعزيزِ الإِسْلاَمِ وعُلَمَائِهِ بِأَرْضِ العِرَاقِ قَامُوا أَوَلاً بتبديدِ هذهِ الأَوقَافِ ، ثم قَامُوا بتحجيمِ المَدَارِسِ ، ثُمَّ كَانَتْ الخَطْوَةُ الثَّالِثَةُ القِيَامَ بإلغائها ، وَمَثَلاً على ذلك :

مَدْرَسَةُ الشَّيْخِ عَبْدِ العَزِيْزِ ابنِ سَالِمٌ السَامَرَّائي ( 1917- 1973م ) في الفلوجة الَّتِي مَا زَالُوا بها حتى أَضْعَفُوهَا وحَاصَرُوْها ، ثُمَّ أُلْغِيَتْ بَعْدَ مَوْتِهِِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى ، وَأَكْثَرُ عُلَمَاءِ المَنْطِقَةِ الغَربيَّةِ من الجِيْلِ الحَاضِرِ والجِيْلِ المَاضِي هم خَرِيجُوا هذه المَدْرَسَةِ .

وَالحَلْقَةُ العِلَمِيَّةُ للعَلاَّمَةُ الشَّيْخِ عَبْدِ الكَرِيْمِ المدرس مَا زَالُوا خَلْفَهَا حتى تَهَدَّمَت وَانْفَلَّ أَركانِها ؛ وَحَدَّثَنِي العَالِمُ الفَاضِلُ الشَّيْخِ الأَدِيْبُ مُصْعَبُ العزاوي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قال : " كُنْتُ أَدرسُ فيها فَكَانُوا يَأْتُوْنَ بِطُلاَّبِ الأَدَبِ يُجْلِسونَهم مَعَنَا لكي يَرَوْا المُقارَنةَ بين التَّعْلِيْمِِ القَدِيْمِِ ، والتَّعْلِيْمِِ الجَامِعِي الحَدِيْثَ ، قال : فكان هَؤُلاَءِ الجَامِعِيون يَأْتُوْنَ بالأَمْثِلَةِ على القَوَاعِدِِ من الكِتَابِ المُقَرَّرِ عِنْدَهُم ولا يَبْرَحُونه أَبَداً ، أما طُلاَّبُنا فَكَانُوا يُمْطَرُونهم بالأَمْثِلَةِ الكَثِيْرَةِ من القُرْآنَ الكَرِيْمِ والحَدِيْثِ وَالشِّعرِ ، وكان أساتذتُهُم يَتَعَجَّبُوْنَ من كَفاءةِ طُلاَّبِنا العَالِيَةِ و مُسْتوى طُلاَّبِهم المتدني " .

وهذا المَعْهَدُ العِلَميُّ في سَامَرَّاء الَّذِي تخرج فيه كِبَارُ مَشَايِخِ سَامَرَّاء من الأَساتذةِ أَصْبَحَ أَثَراً بَعْد عَيْنٍ ، وقُل مثل ذلك في المَعْهَدِ الإِسلاَمِيُّ في سيو أبكار ، والمَعْهَدِ الإِسلاَمِيُّ في حلبجة ، والمَعْهَدِ الإِسلاَمِيُّ فِي البَصْرَة .

وَأَكْبَرُ خرَابٍ حلّ بِدورِ العِلْمِِ هو إغْلاقُ مَدْرَسَةِ " النَّجَاةِ " فِي الزُّبَيْرِ التي أسسها العَلاَّمَةُ المُجَاهِدُُ مُحَمَّدُ الأَمِيْن الشنقيطي ( 1293- 1332هـ ) فِي مَدِيْنَةِ الزُّبَيْرِ ، وكَانَتْ هذهِ المَدْرَسَةُ مِحْضَنَ الكَثِيْرِ من أَعْلاَمِ الخَلِيْجَ والجَزِيْرَةَ العَرَبِيَّةَ وَلاَ سِيَّمَا الكويت ؛ لقد أَغْلَقوها بعد موتِ الشَّيْخِ فَصَارَتْ أَطلالاً بَاكِيَةً .

ثم قف وَاسْأَلِ الحَيْدَر خانة عن مَدْرَسَةِ العَلاَّمَةِ الإِمَامِ مَحْمُوْدُ شُكْرِي الآلُوْسِيُّ وما فُعِلَ بِتِلْكَ المَدْرَسَةِ ؛ ولقد خَلفَه في هذا المَسْجِدِ العَظِيْمِ شَّيْخٌ مشبوهٌ كان يغشُ في لامْتِحَانِ في كُلِّيَّةِ الشَّرِيْعَةِ .

وَاسْأَلِ أَيْضاً بدُمُوعٍِ بَاكِيَةً أَطْلالَ مَدْرَسَةِ جَامِعِ مرجال حَيْثُ مَكَانُ العَلاَّمَةِ الإِمَامِ نُعْمَانُ خَيْر الدِّيْنِ الآلُوْسِيُّ ؛ حَيْثُ كَانَتْ مَدْرَسَتُةُ العِلميَّة ؛ لقد خَرَّبوها كُلِّهَا وصَرَفوا النَّاسَ عَنْهَا ، فقلّ العُلَمَاءُ وَكْثُرَ الجَهْلُ ، ، وَأَلزِمُوا العُلَمَاءَ زِيَادَةً في الإذْلالُ بالخِدْمَةِ العسكريَة لا لِيُجَاهدُوا عَدُوّاً ، ولكن لِيَنَالُوا من كَرَامَتِهِم ، وَيَحُطُّوا من منزلتهم ، ويعطَّلُوا دورَهم في التَّعْلِيْمِ والإِرْشَادِ .

لقد تَخرج من هذه المَدَارِسِِ أَعْلاَمُ العِرَاقِ الكِبَارِ مِنَ العُلَمَاءِ وَالأُدَبَاءِ وَأَهْلِ الفَضْلِ ، بل حتى بَعْضُ العَلْمَانِيين فقد أخذ كَامِلُ الجادرجي ( 1897-1967م ) عُلُوْمَ العَرَبِيَّةِ وَآدَابَها مِنَ الشَّيْخِ العَلاَّمَةِ عَلِيّ عَلاَء الدِّيْنِ الآلُوْسِيُّ ، وَالشَّاعِرُ مَعْرُوْفٌ الرُّصَافِيّ ( 1875-1945م ) تخرج من بين يدي العَلاَّمَةِ مَحْمُوْدُ شُكْرِي الآلُوْسِيُّ .

رِجَالُ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى وَقُرْبُهُم مِنْ صِنَاعَةِ القَرَارِ :
على طُولِ هَذهِ الفَتْرَةِ للدَّوْلَةِ العَلْمَانِيَّةِ نَهَجَ العَلْمَانِيَّون طَرِيْقاً وَاحِداً َتَمثَّلَ في إِبْعادِ العُلَمَاءَ وَتَقَرِيْبِ مَنْ عَدَاهُمْ ؛ حَتَّى اليَهُوْدُ وَالنَّصَارَى ؛ حَيْثُ حَصَلوا عَلَى تَرْخيصٍ بِإِنشَاءِ مَدْرَسَةِ الاليانس الخَاصَّةِ ، وَكَانَ رِجَالُ الحُكْمِ يُرْسِلُوْنَ أَوْلاَدَهُم إِلَيْهَا ، بل كَانَ المَلِكُ فَيَصِلُ الأَوَّل ، وَجَعْفَرُ بَاشَا العَسْكَرِيُّ ممن يَزُورُونَ هَذِهِ المَدْرَسَة و يَحضُرُون مُنَاسَبَاتها ومن رِجَالِ اليَهُوْدِ العِرَاقِيِّيْنَ الَّذِيْنَ بَرَزَتْ أَسمَاؤُهُم : ( ساسون عقِيْل ) فقد قَرَّبَهُ الحُكَّامُ آنذاك إِلَيْهَم حتى صار وَزِيْراً للمَالِيَّة ، ومن رِجَالِ الخَارجيَة المَشْهُوْرِينَ (مير البَصْرِيّ) وهو ما زال حياً يُقِيْمُ في لندن يَكْتُبُ كُتُباً كَثِيْرَةً في تَرَاجِمِ رِجَالِ العِرَاقِ مع نَبْزِ أَعْيَانِ السُّنَّةَ .

ومن النَّصَارَى أَبْرَِزُوا القَسّ انستاس الكرملي ( 1866-1947م ) وكان هذا القَسُّ من العُمَلاءِ المُخْلَصِيْنَ للإنجليز وقد أَرْسَلُوْهُ بِذَّهَبَ وَمَالٍ إلى العَلاَّمَةِ مَحْمُوْدُ شُكْرِي الآلُوْسِيُّ لإقناعه بوَظِيفَةِ الإِفتاءِ أو القَضَاءِ في دَّوْلَةِ الإنجليز فَرَفَضَ الشَّيْخُ الذَّهَبَ والوَظِيفَةَ ، بل ورَفَضَ مُقَابَلَةَ المَلِكِ فَيَصِل الأَوَّل إلا بعد إِلحَاحٍ شَدِيْدٍ .

وهذا القَسُّ له جهودٌ ونَشَاطاتٌ في التَّارِيْخِ ، وعِلمِ اللُّغَةِ والأَدَبِ العَرَبِيِّ ، وبصماتهُ النَّصْرَانِيَّةُ وَاضِحَةٌ في آثَارِهِ .

وقد أُتِيحَ لِلنَّصَارَى فتحُ المَدَارِسِ التنصيريةِ ، وبِنَاءً الكَنَائِسِ ، وتَعمِيْرُ مَقَابِرِهِم، ، وفُتِحَتْ لهم الأَبْوَابُ إلى الوَظَائِفِ الكَبِيْرَةِ ، والوُصُوْلُِ إلى الوَزَارَتِ ، وَلَيْسَ ( طَارِقُ حنا عَزِيْز ) نَائِبُ رَئِيْسِ الوُزَرَاءِ العِرَاقِيِّ الحالي المِثَالَ الوَحيدَ ، بل السَّفَارَاتُ ، ومَوقِعُ التَّأثيرِ الاَقتصَادي كَانَتْ لهم ، وَمَا زَالَتْ تحت سُلطَانهم ! نَسْأَلُ اللهَ أن يَنْقُذَ العِرَاقَ وَأَهْلَهُ من ظلم وَجبروتِ البَعْثِ وأَزْلامِهِ .

المَصْدَرُ : مَجَلَّةُ البَيَان - العَدَدُ 130 - جُمَادَى الآخِرَةِ 1419 هـ

--------------
[1] انْظُرْ المُنَاظَرَةَ مطبوعَةً تحت اسم ( مُؤْتَمِر النَّجفِ ) مع كِتَابِ ( الخُطُوط العرِيضَةِ ) للعَلاَّمَةِ محب الدين الخَطِيْبُ رَحِمَهُ اللهُ .
 

اختاره
عَـبْـد الـلَّـه بن محمد زُقَـيْـل

الصفحة الرئيسة      |      صفحة الشيخ