بسم الله الرحمن الرحيم

أَلَا نستفيدُ مِنْ تجاربِ هؤلاءِ ؟


الحمدُ للهِ وبعدُ ؛

إن الاختلافَ من السننِ الكونيةِ التي أرادها اللهُ لعبادهِ ، وقررها في كتابهِ فقال تعالى : " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبّك " [ هود : 118 - 119 ] .

قال الإمامُ الطبري عند تفسيرِ الآية : " وَلَوْ شَاءَ رَبّك يَا مُحَمَّد لَجَعَلَ النَّاس كُلّهَا جَمَاعَة وَاحِدَة عَلَى مِلَّة وَاحِدَة وَدِين وَاحِد ... ثُمَّ اِخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الِاخْتِلَاف الَّذِي وَصَفَ اللَّه النَّاس أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ بِهِ , فَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ الِاخْتِلَاف فِي الْأَدْيَان . فَتَأْوِيل ذَلِكَ عَلَى مَذْهَب هَؤُلَاءِ وَلَا يَزَال النَّاس مُخْتَلِفِينَ عَلَى أَدْيَان شَتَّى مِنْ بَيْن يَهُودِيّ وَنَصْرَانِيّ وَمَجُوسِيّ , وَنَحْو ذَلِكَ . وَقَالَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَة : اِسْتَثْنَى اللَّه مِنْ ذَلِكَ مَنْ رَحِمَهُمْ , وَهُمْ أَهْل الْإِيمَان " .ا.هـ.

وقال ابنُ كثيرٍ : " يُخْبِر تَعَالَى أَنَّهُ قَادِر عَلَى جَعْل النَّاس كُلّهمْ أُمَّة وَاحِدَة مِنْ إِيمَان أَوْ كُفْر كَمَا قَالَ تَعَالَى" وَلَوْ شَاءَ رَبّك لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْض كُلُّهُمْ جَمِيعًا " وَقَوْله " وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبّك " أَيْ وَلَا يَزَال الْخُلْف بَيْن النَّاس فِي أَدْيَانهمْ وَاعْتِقَادَات مِلَلِهِمْ وَنِحَلهمْ وَمَذَاهِبهمْ وَآرَائِهِمْ وَقَالَ عِكْرِمَة : مُخْتَلِفِينَ فِي الْهُدَى . وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ : مُخْتَلِفِينَ فِي الرِّزْق يُسَخِّر بَعْضهمْ بَعْضًا . وَالْمَشْهُور الصَّحِيح الْأَوَّل " .ا.هـ.

وأخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن الاختلافَ والافتراقَ وقع في الأممِ السابقةِ من اليهوديةِ والنصرانيةِ ، وسيقعُ في أمتهِ ولا محالة . ‏

عَنْ ‏‏أَبِي هُرَيْرَةَ ‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏‏قَالَ :‏‏ " تَفَرَّقَتْ ‏‏ الْيَهُودُ ‏عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ أَوْ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ،‏ ‏وَالنَّصَارَى ‏‏مِثْلَ ذَلِكَ ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً .

رواه أحمد (2/332) ، وأبو داود (4596) ، والترمذي (2642) ، وابن ماجة (3991) . وقال الترمذي عقب الحديث : " ‏حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ " .

وقد تكلم العلماءُ على حديثِ الافتراقِ كلاماً طويلاً نأتي على بعضِ مباحثهِ لاحقاً .

والاختلافُ في هذهِ الأمةِ واقعٌ ولا بد ، وقد وقع فعلاً كما أخبر الصادقُ المصدوقُ صلى اللهُ عليه وسلم ، ومع وقوعِ الاختلافِ في الأمةِ إلا أنه لا يعني الاستسلامُ لهُ ، ولا الاسترسالُ فيه ، فلا بد أن يكونَ الحقُ مع واحدةٍ منهم ، وهي الطائفةُ المنصورةُ التي أخبر بها النبي صلى اللهُ عليه وسلم .

وقد استثنى بعضُ العلماءِ من حديثِ الافتراقِ الآنفِ الذكر بعضَ الفرقِ التي عُرف كفرها عند سلفِ الأمةِ ومنهم الجهميةُ .

قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ في " الفتاوى " (17/447) : وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ وَغَيْرُهُمَا : أُصُولُ الْبِدَعِ أَرْبَعَةٌ : الشِّيعَةُ وَالْخَوَارِجُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ . قَالُوا : والجهمية لَيْسُوا مِنْ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ عَنْ أَصْحَابِ أَحْمَد فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ هَذَا أَحَدُهُمَا . وَهَذَا أَرَادُوا بِهِ التَّجَهُّمَ الْمَحْضَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَهْمٌ نَفْسُهُ وَمُتَّبِعُوهُ عَلَيْهِ وَهُوَ نَفْيُ الْأَسْمَاءِ مَعَ نَفْيِ الصِّفَاتِ بِحَيْثُ لَا يُسَمَّى اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَلَا يُسَمِّيهِ شَيْئًا وَلَا مَوْجُودًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ " .ا.هـ.

وقال أيضاً (12/486 – 487) : " والجهمية - عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ : مِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَيُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ - لَيْسُوا مِنْهُ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً الَّتِي افْتَرَقَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ ؛ بَلْ أُصُولُ هَذِهِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ : هُمْ الْخَوَارِجُ وَالشِّيعَةُ وَالْمُرْجِئَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَهَذَا الْمَأْثُورُ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ عَامَّةِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ؛ مَنْ قَالَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ " .ا.هـ.

وهناك فرقٌ تماثلُ الجهمية في كثيرٍ من معتقداتها فأخذت حكمها ، قال الشيخ د . ناصر العقل في مُقدمات في الأهواء ولافتراق والبدع (1/76) : " وهذه المقولات ، أعني : القول بخلق القرآن ، وإنكار الرؤية ، عليه طوائف من الرافضة ، والخوارج المتأخرين ، فعلى هذه القاعدة يأخذون حكم الجهمية . والله أعلم .ا.هـ.

وبعد هذه المقدمةِ المهمةِ نأتي على موضوعنا الذي نحنُ بصددهِ ، تنادتِ الصيحاتُ وتعالتِ المطالباتُ في الأزمانِ المتأخرةِ بضرورةِ التقاربِ بين الأديانِ بصفةٍ عامةٍ ، وبين الرافضةِ والسنةِ على وجهِ الخصوصِ ، ضاربين بنصوصِ الكتابِ والسنةِ عرض الحائطِ في أن الاجتماعَ لا يكونُ بين الحقِ والباطلِ ، ولو زُين للباطلِ ما زُين ، وزمجر له أصحابهُ ما زمجروا ، وإذا تردد العقلُ في خضمِ هذه النوازلِ المدلهمّةِ بين الحقِ والباطلِ ، والزَّينِ والشَّينِ ، دعتهُ السنةُ إلى الحقِ والزَّينِ ؛ لأن الحقَ أبلجٌ ، والباطلَ لجلجٌ .

ونحنُ أمةٌ على كثرةِ تجاربها ، وطولِ تاريخها إلا أنها لا تحاولُ أن تستفيدَ من تجاربِ أسلافها من رجالاتها ، ولقد نادى العقلاءُ بالاستفادةِ من تاريخِ الأمةِ المحمديةِ ، وتجاربها السابقة ولكن لا حياة لمن تنادي مع الأسف .

ومرت بالأمةِ دعوةُ التقريبِ بين الرافضةِ والسنةِ ، وقد خاض غمارَ بهرجِ هذه الدعوةِ أناسٌ يشارُ إليهم بالبنانِ ، ولكنهم أكتشفوا بعد فترةٍ من الزمنِ أنهم يلهثون وراءَ سَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماء حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ، ونريدُ هنا أن نقفَ مع تجاربهم ، وبماذا خرجوا بعد الخوضِ فيها ؟ وما سببُ تحمسهم لها ؟ ثم ما حصل لهم من صدماتٍ بعد تكَشُّفِ الحقائقِ ؟ وهذه التجاربُ هي تجاربُ جماعية وفردية ، وقد فصل القولَ فيها تفصيلاً لا تجده عند غيرهِ الشيخُ الدكتورُ ناصرُ القفاري – جزاهُ اللهُ خيراً - في كتابهِ الرائعِ " مسألة التقريب بين أهلِ السنةِ والشيعةِ " ، وكتابهُ الثاني الذي هو بمثابةٍ المكملِ للأول وهو " أصولُ مذهبِ الشيعةِ الإماميةِ الاثنى عشرية . عرضٌ ونقدٌ " ولذلك نجدُ الرافضةَ لا يحبون كتبَ الشيخِ ناصر القفاري ، ويتهمونها بالتطرفِ والغلو ، وتفريقِ الأمةِ كما يزعمون ، وما دروا أو تعاموا أن في كتبهم ما هو أشد مما نقلهُ الدكتورُ القفاري آلاف المراتِ من الكفرِ والتكفيرِ لعامةِ الأمةِ ، بل الأنبياء لم يسلموا من تكفيرهم ، نسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ .

أولاً : محاولاتٌ قديمةٌ :

أشارت كتبُ التاريخِ إلى حصولِ محاولاتٍ قديمةٍ للتقاربِ بين السنةِ والشيعةِ في القرنِ الخامسِ الهجري وذلك بعد صراعٍ عنيفٍ حصل بين الطائفتين في بغداد بدأ في ربيعِ الأولِ من سنةِ 338 هـ .

قال ابنُ كثيرٍ في " البدايةِ والنهايةِ " (11/221) : " ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة : في ربيع الأول منها وقعت فتنة بين الشيعة وأهل السنة ونهبت الكرخ " .ا.هـ.

وتوالتِ الفتنُ بينهما بعد ذلك ونسردها كما جاءت في " البدايةِ والنهايةِ " :

سنة ست وأربع مئة ( 406 هـ )
قال ابنُ كثيرٍ : " ثم دخلت سنة ست وأربعمائة : في يوم الثلاثاء مستهل المحرم منهذه السنة وقعت فتنة بين أهل السنة والروافض ، فسكن الفتنة الوزير فخر الملك ، على أن تعمل الروافض بدعتهم يوم عاشرواء من تعليق المسوح والنوح " .ا.هـ.

سنة سنة ثمان وأربع مئة ( 408 هـ )
قال ابنُ كثيرٍ : " ثم دخلت سنة ثمان وأربعمائة : فيها وقعت فتنةٌ عظيمةٌ بين السنةِ والروافضِ ببغداد ، فقتل خلقٌ كثيرٌ من الفريقين " .ا.هـ.

سنة سنة إحدى وعشرين وأربع مئة ( 421 هـ )
قال ابنُ كثيرٍ : " ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وأربعمائة : وفيها عملت الرافضةُ بدعتهم الشنعاء وحادثتهم الصلعاء في يوم عاشوراء من تعليقِ المسوحِ ، وتغليقِ الأسواقِ ، والنوحِ والبكاءِ في الأزقةِ والأرجاءِ ، فأقبل إليهم أهلُ السنةِ في الحديدِ ، واقتتلوا قتالاً شديداً ، فقتل من الفريقين طوائفُ كثيرة ، وجرت فتنٌ كبيرةٌ وشرورٌ مستطيرةٌ ، فإنا لله وإنا إليه راجعون " .ا.هـ.

سنة سنة اثنتين وعشرين وأربع مئة ( 422 هـ )
قال ابنُ كثيرٍ : " ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة : وفيها وقعت فتنةٌ عظيمةٌ بين السنةِ والروافضِ ، وقويت عليهم السنةُ ، وقتلوا خلقاً منهم ، ونهبوا الكرخ ، ودار الشريفِ المرتضى ، ونهبت العامةُ دور اليهودِ لأنهم نسبوا إلى معاونةِ أهلِ الكرخ من الروافضِ ، وتعدى النهبُ إلى دورٍ كثيرةٍ ، وانتشرت الفتنةُ جداً ، ثم سكنت بعد ذلك " .ا.هـ.

سنة سنة خمس وعشرين وأربع مئة ( 425 هـ )
قال ابنُ كثيرٍ : " ثم دخلت سنة خمس وعشرين وأربعمائة : وفيها وقعت الفتنةُ بين السنةِ والروافضِ حتى بين العيارين من الفريقين ومنع أبنا الأصبهاني - وهما مقدما عياري أهل السنة - أهل الكرخ من ورودِ ماءِ دجلة ، فضاق عليهم النطاقُ ".ا.هـ.

سنة سنة تسع وثلاثين وأربع مئة ( 439 هـ )
قال ابنُ كثيرٍ : " ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وأربعمائة : وجرت فتنةٌ بن السنةِ والروافضِ ببغداد ، قُتل فيها خلقٌ كثيرٌ . ولم يحج أحد من ركب العراق في هذا العام . فلا قوة إلا بالله " .ا.هـ.

سنة ثلاث وأربعين وأربع مئة ( 443 هـ )
قال ابنُ كثيرٍ : " ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة : في صفر منها وقع الحربُ بين الروافضِ والسنةِ ، فقتل من الفريقين خلقٌ كثيرٌ ، وذلك أن الروافضَ نصبوا أبراجاً ، وكتبوا عليها بالذهبِ : " محمدٌ وعلي خيرُ البشرِ ، فمن رضي فقد شكر ، ومن أبى فقد كفر " ، فأنكرت السنة إقران علي مع محمد صلى الله عليه وسلم في هذا ، فنشبت الحرب بينهم ، واستمر القتال بينهم إلى ربيع الأول ، فقتل رجل هاشمي ، فدفن عند الإمام أحمد ، ورجع السنة من دفنه ، فنهبوا مشهد موسى بن جعفر وأحرقوه ، وأحرقوا ضريح موسى ومحمد الجواد ، وقبور ملوك بني بويه مَن هناك مِن الوزراء ، وأحرق قبر جعفر بن المنصور ، ومحمد الأمين ، وأمه زبيدة ، وقبور كثيرة جدا ، وانتشرت الفتنة وتجاوزت الحد ، وقد قابلهم أولئك أيضا بمفاسد كثيرة ، فأحرقوا مالاً كثيرة ، وبعثروا قبورا قديمة ، وأحرقوا من فيها من الصالحين ، حتى هموا بقبر الإمام أحمد ، فمنعهم النقيب ، وخاف من غائلة ذلك ، وتسلط على الرافضةِ عيارٌ يقال له : الطقيطقي . وكان يتتبع رءوسهم وكبارهم فيقتلهم جهاراً غيلةً ، وعظمتِ المحنةُ بسببه جداً ، ولم يقدر عليه أحدٌ ، وكان في غايةِ الشجاعةِ والبأسِ والمكرِ ، ولما بلغ ذلك دبيسُ بنُ علي بنِ مزيد ، وكان رافضياً ، قطع خطبةَ الخليفةِ القائمِ باللهِ ، ثم روسل فأعادها " .ا.هـ.
قال الرازي في " مختارِ الصحاحِ " في معنى كلمةِ " عَيَّار " : " وفرس عَيَّارٌ بالتشديد أي يعير ها هنا وها هنا من نشاطه ، ويُسمى الأسدُ عيَّاراً لمجيئه وذهابه في طلبِ صيدهِ ، ورجلٌ عيَّارٌ أي كثيرُ التطوافِ والحركةِ ذكي " .ا.هـ.

سنة أربع وأربعين وأربع مئة ( 444 هـ )
قال ابنُ كثيرٍ : " ثم دخلت سنة أربع وأربعين وأربعمائة : وفي ذي القعدة منها تجددت الحربُ بين الرواقضِ وأهلِ السنةِ ، وأحرقوا أماكنَ كثيرة ، وقُتل من الفريقين خلائقٌ ، وكتبوا على مساجدهم : " محمدٌ وعلي خيرُ البشرِ " . وأذنوا بحي على خيرِ العملِ ، واستمرت الحربُ بينهم ، وتسلط الطقيطقي العيار على الروافض بحيث إنه لم يقر لهم معه قرار ، وهذا من جملةِ ما جرت به الأقدار " .ا.هـ.

سنة خمس وأربعين وأربع مئة ( 445 هـ )
قال ابنُ كثيرٍ : " ثم دخلت سنة خمس وأربعين وأربعمائة : فيها تجدد الشرُ والقتالُ والحريقُ بين الروافضِ والسنةِ وقوي ، وتفاقم الحالُ " .ا.هـ.

سنة سبع وأربعين وأربع مئة ( 447 هـ )
قال ابنُ كثيرٍ : " ثم دخلت سنة سبع وأربعين وأربعمائة : وفيها وقعت الفتنةُ بين السنةِ والرافضةِ على العادةِ ، فاقتتلوا قتالاً شديداً مستمراً ، ولا تمكن الدولةُ أن يحجزوا بين الفريقين " .ا.هـ.

سنة ثمان وسبعين وأربع مئة ( 478 هـ )
قال ابنُ كثيرٍ : " ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وأربعمائة : ... وقعت فتنةٌ عظيمةٌ بين الروافضِ والسنةِ فقتل خلقٌ كثير " .ا.هـ.

سنة إحدى وثمانين وأربع مئة ( 481 هـ )
قال ابنُ كثيرٍ : " ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وأربعمائة : فيها كانت فتنٌ عظيمةٌ بين الروافضِ والسنةِ ببغداد ، وجرت خطوبٌ كثيرةٌ " .ا.هـ.

سنة ثنتين وثمانين وأربع مئة ( 482 هـ )
قال ابنُ كثيرٍ : ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين وأربعمائة : وفيها كانت فتنٌ عظيمةٌ بين الروافضِ والسنةِ ، ورفعوا المصاحفَ ، وجرت حروبٌ طويلةٌ وقتل فيها خلقٌ كثير . نقل ابنُ الجوزي في المنتظم من خطِ ابنِ عقيل أنهُ قُتل في هذه السنةِ قريبٌ من مائتي رجل ، قال : " وسب أهلُ الكرخِ الصحابةَ ، وأزواجَ النبي صلى اللهُ عليه وسلم ، وارتفعوا إلى سبِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم ، فلعنةُ الله على أهلِ الكرخِ الذين فعلوا ذلك . وأنما حكيتُ هذا ليعلم ما في طوايا الروافضِ من الخبثِ والبغضِ لدينِ الإسلامِ وأهلهِ ومن العداوةِ الباطنةِ الكامنةِ في قلوبهم للهِ ولرسولهِ وشريعتهِ " .ا.هـ.

سنة ست وثمانين وأربع مئة ( 486 هـ )
قال ابنُ كثيرٍ : " ثم دخلت سنة ست وثمانين وأربعمائة : وفيها وقعت الفتنةُ بين الروافضِ والسنةِ ، وانتشرت بينهم شرورٌ كثيرةٌ " .ا.هـ.

سنة سنة عشر وخمس مئة ( 510 هـ )
قال ابنُ كثيرٍ : " ثم دخلت سنة عشر وخمسمائة : وقعت فتنةٌ عظيمةٌ بين الروافضِ والسنةِ بمشهدِ على بنِ موسى الرضا بمدينةِ طوس ، فقتل فيها خلقٌ كثيرٌ " .ا.هـ.

وعلى الرغمِ من هذه الأحداثِ الداميةِ التي جرت ، كانت هناك فتراتٌ حصلت فيها محاولاتٌ للتقريبِ بين أهلِ السنةِ والشيعةِ ، وحصل توافق مؤقتٌ بينهم ، يصفهُ ابنُ كثيرٍ في " البدايةِ والنهايةِ " (12/54) بقوله : " ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وأربعمائة : وفيها وقع ببغداد بين الروافضِ والسنةِ ، ثم اتفق الفريقان على نهبِ دورِ اليهودِ ، وإحراقِ الكنيسةِ العتيقةِ التي لهم " .ا.هـ.

علق الدكتورُ ناصر القفاري على الحدث فقال : " والأقربُ أن هذا الاتفاق جرى من عوامِ الفريقين ذلك أن صنيعهم مع أهل الكتابِ لا يتفقُ ومبادىء الإسلامِ في حقوقِ أهلِ الذهةِ . ولكن هذا الاتفاق ما لبث أن انتهى سريعاً ... " ، وذكر الشيخُ الدكتور ما تقدم من أحداث في سنةِ 439 هـ .

وحصل وفاقٌ مرةً أخرى يصفهُ ابنُ كثيرٍ في " البدايةِ والنهايةِ " (12/61) بقولهِ : " ثم دخلت سنة ثنتين وأربعين وأربعمائة : وفيها اصطلح الروافضُ والسنةُ ببغداد ، وذهبوا كلهم لزيارةِ مشهدِ علي ومشهدِ الحسين ، وترضَّوا في الكرخ عن الصحابةِ كلهم ، وترحموا عليهم ، وهذا عجيبٌ جداً ، إلا أن يكونَ من بابِ التقيةِ " .ا.هـ.

ويصفهُ الذهبي في " العبر في خبرِ من غبر " (2/280 – 281) بقوله : فيها عُين ابنُ النسوي لشرطةِ بغداد ، فاتفقتِ الكلمةُ في السنةِ والشيعةِ ، أنهُ متى وليَّ ، نزحوا عن البلدِ ، ووقع الصلحُ بهذا السببِ بين الفريقينِ ، وصار أهلُ الكرخِ يترحمون على الصحابةِ ، وصلوا في مساجدِ السنةِ ، وخرجوا كلهم إلى زيارةِ المشاهدِ ، وتحابوا وتوادوا ، وهذا شيءٌ عجيبٌ لم يعهد من دهرٍ " .ا.هـ.

ويصفهُ أيضا في " السير " (18/309) فيقولُ : " وَفِي سَنَةِ (441) عُملت بِبَغْدَادَ مآتمُ عَاشُورَاء ، فَجرت فِتْنَةٌ بَيْنَ السّنَة وَالشِّيْعَة تَفوتُ الوَصْفَ مِنَ القتل وَالجرَاح ، وَنُدب أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ النَّسوِي لِشحنكية بَغْدَاد ، فَثَارت العَامَّةُ كلهُم ، وَاصطلح السّنَةُ وَالشِّيْعَةُ ، وَتوَادُّوا وَصَاحُوا : مَتَى وَلِي ابْنُ النَّسَوِي أَحرقنَا الأَسواقَ ، وَنزحنَا . وَترحَّم أَهْلُ الكرخ عَلَى الصَّحَابَة ، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يُعهد " .ا.هـ.

وصدق توقعُ ابنِ كثيرٍ أن فعلهم كان تقيةً ، فبعد ذلك بسنةٍ حصلت مقتلةٌ بينهما ، أشرنا إليها فيما تقدم ، ويصفهُا الذهبي أيضاً في " السيرِ " (18/310) بقولهِ : " ثُمَّ بَعْدَ سَنَة فَسد مَا بَيْنَ السُّنَّة وَالشِّيْعَة ، وَعَمِلَت الشِّيْعَة سوراً عَلَى الكرخ ، وَكتبُوا عَلَيْهِ بِالذَّهَبِ : " مُحَمَّد وَعلِيٌّ خَيْرُ البَشَر ، فَمَنْ أَبى فَقَدْ كَفَر " .ا.هـ.

وطبعُ الرافضةِ طبعُ المنافقين ، ويصدقُ عليهم قولُ اللهِ تعالى : " وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ " [ البقرة : 14 ] ، وقال تعالى : " وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ " [ البقرة : 76 ] .

ثم عاد الصلحُ بين الفريقين مرةً ثالثةً ، قال ابنُ كثيرٍ في " البدايةِ والنهايةِ " (12/149) : " ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وأربعمائة : ... وفي هذه السنةِ اصطلح أهلُ الكرخِ من السنةِ والرافضةِ مع بقيةِ المحالِ ، وتزاوروا وتواكلوا وتشاربوا ، وكان هذا من العجائبِ " .ا.هـ.

وبعد هذا يتبينُ لكلِ عاقلٍ أن الشيعةَ لا يمكنُ أن يتفقَ معهم ، ولا يحصلُ التقريبُ بينهم وبين السنة ، قال الشيخُ الدكتورُ ناصرُ الغفاري : " هذا ما ذكرتهُ كتبُ التاريخِ التي اطلعنا عليها من حوادثِ الوفاقِ والتآلفِ ، وكانت هذه المحاولاتُ في خضمِ الأحداثِ الكبيرةِ العنيفةِ من الصراعِ بين الطائفتينِ أشبهُ ما يكونُ بومضةِ برقٍ في ليلٍ بهيمٍ ما تلبثُ أن تنتهي ، ونقولُ – لا تحيزاً أو تعصباً – بأن أسبابَ الصراعِ والفتنِ – في الغالبِ – مصدرهُ وسببهُ الروافضُ نتيجةً لسبهم وتكفيرهم للصحابةِ في مآتمهم السنويةِ " عاشوراء " ، وهذا واضحٌ لمن يستقرىء التاريخَ .. فكان استفزازهم لأهلِ السنةِ وشنائعهم تقضي على كلِ محاولةِ وفاقٍ " .ا.هـ.

وصدق الشيخُ ؛ وها نحنُ نعيشُ أحداثاً كثيرةً من تصريحِ الرافضةِ بتكفيرِ الصحابةِ في منتدياتهم الحواريةِ ، أو عن طريق بعضِ غرف برنامجِ " البال توك " الخاصةِ بهم ، يشتمون الصحابةَ ليلاً ونهاراً ، جهاراً وعياناً ، بل بعضُ الرافضةِ نزعَ الحياء بالكليةِ ، ومنهم الزنديق ياسر الحبيب الذي سجل أشرطةً فيها تكفيرُ الشيخين عليه من اللهِ ما يستحق .

ثانياً : المحاولاتُ الجماعيةُ :
أشار الشيخُ الدكتورُ ناصر القفاري في " مسألة التقريبِ بين أهلِ السنةِ والشيعةِ " إلى ثلاثِ محاولاتٍ جماعيةٍ للتقريبِ ، ومن ذلك :

1 – محاولةُ جماعةٍ سمت نفسها " جماعة الأخوة الإسلامية " ، يقولُ عنها الشيخُ في " مسألة التقريبِ بين أهلِ السنةِ والشيعةِ " (2/171 – 172) : " والمعلوماتُ عن هذهِ الجماعةِ لم تتوفر - حسب علمي – إلا عن طريقِ أحد الباطنيين الإسماعيليين ويدعى " محمد حسن الأعظمي " ، قال عنهُ محمودُ الملاح : " محمدُ الأعظمي نسبةً إلى " أعظم كره " في الهندِ لا " أعظمية بغداد " ، وهو يبطنُ إسماعيليته ، ويتصنعُ الدعوة للوحدةِ الإسلاميةِ ، وتورط في دعوتهِ كثيرٌ من الفضلاءِ ، بحيثُ أني أخجلُ من ذكرِ أسمائهم قيا لضيعةِ الحقائقِ " [ محمود الملاح : " النحلةُ الأحمديةُ " : ص 4 ] .

يزعمُ هذا الباطني أنهُ أنشأ هذه الجماعة عام 1937 م ، وجعل مركزها " قبة الغوري بمصر " [ وقد سألتُ عنها الشيخَ عبدَ العزيز عيسى مدير مجلة " دار التقريب " في القاهرة ، ووزير الأزهر ( سابقاً ) فقلا : " لم نسمع بهذا في آبائنا الأولين " ] ، ثم انتقل بعد ذلك إلى كراتشي عام 1948 م [ وفي أثناء زيارتي لباكستان سألتُ عنه في كراتشي فقيل لي أنه قد مات ، ولم أجد لجامعته ذكراً ] ، وزعم أنها تضمُ طائفةً من رجالِ الفكرِ والعلمِ في مصر [ فيزعمُ أن هذه الجماعة تضم الدكتور عبد الوهاب عزام ، ( انظر ترجمته في " الأعلام " 4/186 ) رئيساً وموجهاً ، والشيخ طنطاوي جوهري ، ( ترجمته في " الأعلام " 3/333 ) عالماً وباحثاً ، والفيلسوف مصطفى عبد الرزاق (ترجمته في " الأعلام " 8/131 ) ] .

وادعى أنه يشترطُ في المشتركين في جماعتهِ أن يكونوا من أتباعِ المذاهبِ التي لا تخالفُ نصَ الكتابِ ، أو صحيحَ السنةِ ، وإجماعَ الأمةِ [ الأعظمي : " الحقائق الخفية " ص 197 ، وراجع للتفصيلِ : " حقائق عن باكستان " لهذا الأعظمي ص 8 وما بعدها ] ، وكان من نشراتِ هذا الإسماعيلي التي ينشد فيها الوحدة والتقريب – كما يدعي – كتابهُ " الحقائق الخفية عن الشيعةِ الفاطميةِ والاثنى عشرية " والذي نشر عام 1970 م ، وتستر فيه على مذهبه الباطني فقال : " وجوابي لكل من سألني عن المذهبِ الذي أنتمي إليهِ أني أقولُ كلمةً واحدةً أني مسلمٌ مؤمنٌ " [ الحقائق الخفية ص 16 ] ، مع أن الرجلَ يسعى في نشرِ مذهبهِ الباطني [ فقد ساهم في نشرِ وتحقيقِ عدد من كتبِ الباطنيةِ في العالم الإسلامي مثل " تأويل الدعائم " للقاضي النعمان قاضي قضاة المعز الفاطمي ، و " افتتاح الدعوة " للمؤلف السابقِ وغيرهما . انظر : " حقيقة باكستان " ص 29 ] .

وأقولُ : إن مما يشككُ في حقيقةِ هذه الجماعةِ ، والدعاوى الكثيرة التي ينسجها الرجلُ حولها هو تفردُ هذا الباطني بنشرها . ولولا خشيةُ الاغترارِ بها لما أشرتُ إليه .

2 – دارُ الإنصافِ : تأسست كما يقولُ بعضُ أعضائها [ وهما هاشم الدفتردار ، ومحمد الزغبي . راجع ترجمتهما في كتابهما " الإسلام بين السنةِ والشيعةِ " ] عام 1366 هـ من فريقِ أهلِ التقوى والصلاحِ وكان من خطتها ( فهمُ المذاهبِ الإسلاميةِ على منهاجِ دارِ تقريبِ المذاهبِ الإسلاميةِ في مصر ... ) [ " الإسلام بين الشيعةِ والسنةِ " المقدمة ص ح – ط ] .

ومن كتبهم التي أصدروها من أجلِ التقريبِ كتابُ " الإسلام بين السنةِ والشيعةِ " في جزئينِ . وقد بنوهُ على أصلٍ خاطىءٍ وهو أن الرافضةَ فئةٌ اندرست وهم الذين يكرهون الصحابةَ ، أما الشيعةُ فيحبون الشيخين ويترضون على الصحابةِ [ المصدرُ السابقُ (1/42 – 43) ] .

وأقولُ : أما أن الشيعةَ يحبون الصحابةَ فقد سبق جوابهُ [ انظر اعتقاد الشيعة في الصحابة في هذا البحث ] .

وأما أن الرافضةَ غيرُ الشيعةِ فهذا ما يردهُ الشيعةُ أنفسهم وقد عقد شيخهم المجلسي باباً في تأكيدِ هذا في كتابهِ " البحار " بعنوان : " باب فضل الرافضة ومدح التسمية بها " كما أن عدداً من شيوخِ الشيعةِ المعاصرين يؤكدون أن هذه التسمية هي خاصةٌ بهم . [ انظر محمد الشيخ الساعدي " مؤيد الدين بن العلقمي " ص 42 ، كما أن شيخَ الشيعةِ " الخميني " يختارُ اسم الرفضِ عنواناً لبعضِ كتبهِ ، وهو كتابهُ " دروس في الجهادِ والرفضِ " ، كما ترى الرافضي طالب الرفاعي يعتبر مصطلح " الرافضة " هو التعبيرُ السليمُ الذي ينطبق عليهم . انظر تعليقاته على رسالةِ " التشيع ظاهرة طبيعية " ] " .ا.هـ.

وللموضوعِ بقيةٌ إن شاء الله تعالى ...

ملحوظةٌ : الكلامُ ما بين [ ... ] هو تعليقُ الشيخِ الدكتور القفاري في الحاشيةِ .

كتبه
عَـبْـد الـلَّـه بن محمد زُقَـيْـل

الصفحة الرئيسة      |      صفحة الشيخ