الحمدُ للهِ وبعدُ ؛
إن من التقريراتِ المهمةِ في السنةِ أن الثناءَ على الميتِ بالخيرِ أو الشرِ
هو عن طريقِ المسلمين الذين عرفوهُ ، وعايشوهُ ، ودرسوا سيرتَهُ ، وسبروا
حالَهُ .
قد يقولُ قائلٌ : وما دليلك ؟
أقول : الدليل ما يلي :
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ :
مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ ،
وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ قَالَ
عُمَرُ : فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي ، مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ
عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقُلْتَ : وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ ، وَمُرَّ
بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقُلْتَ : وَجَبَتْ وَجَبَتْ
وَجَبَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ، وَمَنْ
أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ
اللَّهِ فِي الْأَرْضِ ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ ،
أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ . رواه البخاري (1367) ، ومسلم
(949) .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ : قَالَ النَّوَوِيّ : وَالظَّاهِر أَنَّ الَّذِي
أَثْنَوْا عَلَيْهِ شَرًّا كَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ .
قُلْت : يُرْشِد إِلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَد مِنْ حَدِيث أَبِي
قَتَادَة بِإِسْنَادٍ صَحِيح أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
يُصَلِّ عَلَى الَّذِي أَثْنَوْا عَلَيْهِ شَرًّا , وَصَلَّى عَلَى الْآخَر
.ا.هـ.
وهذه الشهادةُ ليست خاصةً بالصحابةِ رضي اللهُ عنهم ، بل لمن جاء بعدهم .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ : قَوْله : " أَنْتُمْ شُهَدَاء اللَّه فِي الْأَرْض
" أَيْ : الْمُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَة ، وَمَنْ كَانَ عَلَى
صِفَتهمْ مِنْ الْإِيمَان . وَحَكَى اِبْن التِّين أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوص
بِالصَّحَابَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْطِقُونَ بِالْحِكْمَةِ بِخِلَافِ
مَنْ بَعْدهمْ . قَالَ : وَالصَّوَاب أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصّ بِالثِّقَاتِ
وَالْمُتَّقِينَ .ا.هـ.
ولهذا العبدُ الفاجرُ أو الكافرُ إذا مات ارتاحتِ الخلائقُ منه ومن فجورهِ
وكفرهِ - نسألُ اللهَ حسن الخاتمة - .
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ
بِجَنَازَةٍ فَقَالَ : " مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ " ، قَالُوا :
يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ ؟ فَقَالَ :
" الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا ، وَالْعَبْدُ
الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ ، وَالْبِلَادُ ، وَالشَّجَرُ ،
وَالدَّوَابُّ " . رواه البخاري (6512) ، ومسلم (950) .
بعد هذه التقريراتِ النبويةِ يستنكرُ البعضُ على من يفرحُ بموتِ طاغيةٍ ،
أوداعيةِ ضلالةٍ ، أو كافرٍ ، والحقيقةُ أن هذا الاستنكار لا وجه له ، ولا
دليل عليهِ ، بل فعلُ السلف بخلافهِ ، وأيضاً بموتهِ يستريحُ منه العبادُ
والبلادُ والشجرُ والدوابُ بنصِ كلامِ النبي صلى الله عليه وسلم السابقِ .
ولذلك شُرع لنا عند تجددِ النعمِ أو اندفاعِ النقمِ أن نسجدَ شكراً للهِ على
ذلك ، فيضعُ أشرفَ عضوٍ من أعضاءِ جسمهِ – وهو الوجهُ – على الأرضِ خضوعاً
لله ، وشكراً له على تجددِ النعمِ أو اندفاع النقمِ ، وطبق سلفُ الأمة هذا
الهدي ، وسجودُ الشكرِ هو عبادةٌ تعبرُ عن الفرحِ بما قد تجدد من النعمِ أو
اندفع من النقمِ .
نأتي الآن على الأمثلةِ من فرحِ السلفِ بموت طاغيةٍ أو داعيةِ بدعةٍ أو كافرٍ
.
إبراهيمُ النخعي أَحَدُ الأَعْلاَمِ ماذا فعل عندما بُشر بموتِ الحجاج ؟
روى ابنُ سعدٍ في " طبقاته " (6/280) قال : أخبرنا عبدُ الحميدِ بنُ عبدِ
الرحمنِ الحِماني ، عن أبي حَنِيْفَةَ : عَنْ حَمَّادٍ ، قَالَ : بَشَّرْتُ
إِبْرَاهِيْمَ بِمَوْتِ الحَجَّاجِ ، فَسَجَدَ ، وَرَأَيْتُهُ يَبْكِي مِنَ
الفَرَحِ .
وذكر الأثرَ الإمامُ الذهبيُّ في " السير " (4/524) .
وهذا عبيدُ اللهِ بنُ عبدِ الله بنِ الحسين ، أبو القاسم الخفاف ، المعروف
بابنِ النقيبِ .
ذكرهُ الإمامُ ابنُ كثيرٍ في " البداية والنهاية " (12/20) ، وقال عنه : كان
من أئمةِ السنةِ ، وحين بلغهُ موتُ ابنِ المعلمِ فقيهِ الشيعةِ سجد للهِ
شكراً . وجلس للتهنئةِ وقال : ما أبالي أي وقتِ متُ بعد أن شاهدتُ موتَ ابنِ
المعلمِ .
فلماذا يستنكرُ بعضُ أهلِ السنةِ الفرحَ بموتِ رؤوسٍ ممن حارب الدينَ من
كفارٍ ومبتدعةٍ ، وحارب أهلَ السنةِ ولهم سلفٌ في أئمتهم ؟؟!!
أما غيرُ أهلِ السنةِ فهو أمرٌ غيرُ مستغربٍ منهم ، ولكن عندما يكونُ القتلُ
في أهلِ السنةِ فلا بواكي لهم ، واللهُ المستعانُ .
لا رَحِمَ اللهُ فِيهِ مَغْرَزَ إِبْرَةٍ :
لقد جاء في تراجمِ بعضِ من كاد للإسلامِ
والمسلمين من كفارٍ وأهلِ بدعٍ الدعاءُ عليهم بعبارة " لا رَحِمَ اللهُ فِيهِ
مَغْرَزَ إِبْرَةٍ " ، فلو دُعى على كافرٍ أو مبتدعٍ قتل في المسلمين ، أو
نكل بهم فلا لوم عليه .
قال الإمام الذهبي في " العِبر في خبرِ من غبر " (2/42) في أحداث سنة اثنتين
وثلاثين وثلاث مئة : " ولم يحجّ الرَّكب لموت القرمطي الطاغية أبي طاهر
سليمان بن أبي سعيد الجنَّابي في رمضان بهجر من جدريّ أهلكه فلا رحم الله فيه
مغرز إبرة " .ا.هـ.
وقال أيضاً في ترجمة " عبيد الله المهدي الباطني " (2/16) : عبيد الله المهدي
. أبو محمد ، أول خلفاء الباطنية بني عبيد أصحاب مصر والمغرب ، وهو دعي كذاب
ادعى أنه من ولد الحسن بن علي . والمحققون متفقون على أنه ليس بحسيني . وما
أحسن ما قال المعز صاحب القاهرة وقد سأله ابن طبابة العلوي عن نسبهم ، فجذب
سيفه من الغمد وقال : هذا نسبي . ونثر علىالحاضرين والأمراء الذهب وقال :
وهذا حسبي . توفي عبيد الله في ربيع الأول بالمغرب . وقد ذكرنا من أخباره في
حوادث هذه السنة ، فلا رحم الله فيه مغرز إبرة . قال أبو حسن القابسي صاحب "
المخلص" رحمه الله : إن الذين قتلهم عبيد الله وبنوه أربعة آلاف رجل في دار
النّحْر في العذاب ، ما بين عابدٍ وعالمٍ ليردهم عن الرضى عن الصحابة
فاختاروا الموت.ا.هـ.
ونحن نقول : لا رحمَ اللهُ مغرزَ إبرةٍ لكلِ من مات وقد آذى المسلمين ، أو
نكل بهم ، أو عذبهم .