السؤال:
سؤالي هل بقي الإمام الشوكاني -رحمه الله- على عقيدة الزيدية ذات الأصول
الإعتزالية ، خاصة في الأسماء والصفات ؟! أم التزم معتقد أهل السنة ؟!
فلقد قرات له في نيل الأوطار في شرح الحديث : (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله
إليه يوم القيامة) ، قوله : [قوله : "لم ينظر الله إليه" : النظر حقيقة في
إدراك العين للمرئي وهو هنا مجاز عن الرحمة ، أي لا يرحمه الله لامتناع حقيقة
النظر في حقه تعالى ] .
وجزاكم الله خيراً .
الجواب :
الأخ ساري عرابي .
لقد كثر الكلام عن عقيدة الإمام الشوكاني ، والكلام فيها يكون بعلم وبغير علم
، وعند وضع الموضوع على ميزان البحث العلمي تنكشف أمور عديدة لم تكن في
الحسبان .
وقد بُحثت عقيدة الإمام الشوكاني في رسالة علمية بعنوان : " منهجُ الإمامِ
الشوكاني في العقيدة " تأليف الدكتور عبد الله نومسوك ، وسأنقل لك ما لخصه
الدكتور في الخاتمة فقال :
فقد انتهيت بعون الله وتوفيقه من إتمام هذا البحث وإكماله ، وفي هذه الخاتمة
أحب أن أجمل النتائج والفوائد التي توصلت إليها في النقاط التالية :
1 -
عاش الشوكاني رحمه الله (1173 - 1250 هـ ) في فترة كانت البلاد الإسلامية
فيها تعاني من تفكك ومن ضعف شديد ، وكانت الصراعات المذهبية والطائفية
القبلية تسود المجتمعات الإسلامية بصفة عامة ومجتمع اليمن ( مسقط رأسه ) بصفة
خاصة ، وقد عاصر رحمه الله المذاهب والفرق والطوائف الدينية المختلفة ،
كالرافضة، والزيدية ، والصوفية ، والمعتزلة ، وغيرهم ، ورأى ما فيهم من
التعصب والجمود ، ومن الأنحراف العقدي والسلوكي المتناقض لتعاليم الأسلام ،
كما رأى ما وقع فيه الناس حوله من الفساد ، والشرور ، والبدع ، والشركيات ،
وجهالهم بأمور الدين ، ورأى قعود العلماء والحكام عن أداء واجباتهم في الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ، ورأى الظلم الأجتماعي الذي ساد المجتمع اليمني
عموماً ، تبدّت مظاهره في سلوكيات القضاة والعمال والحكام وهذه الأمور التي
تكونت منها بيئه الشوكاني لها أثر بالغ في ظهوره وقيامه بالأصلاح .
2 -
نشأ الشوكاني رحمه الله في بيت علم حيث كان والده من العلماء الكبار ، وكان
له أكبر الأثر في تكوين الشوكاني ، حيث هيأ له فرصة التفرغ للعلم ، وكفل له
وسائل الحياة المعيشية ، فبدأ حياته العلمية منذ الصغر ، وتتلمذ على عدد كبير
من علماء صنعاء في عصره ، ولم يرحل منها . وكان أكثرهم تأثيراً فيه شيخه عبد
القادر بن أحمد الكوكبانى ، والحسن بن إسماعيل المغربي ، وعبد الله بن
إسماعيل النهمي ، ودرس جميع العلوم الشرعية والعربية ونبغ فيها ، بل درس
العلوم الفلسفية الشائعة في ذلك الوقت ، كالمنطق ، والطبيعة ، والرياضة ،
وغير ذلك ، وقد بلغ مرتبة من التفوق المبكر جعلته يدرّس وهو في أثناء طابه
العلم ، ويفتى وهو في العشرين من عمره ، ثم يتولّى بعد ذلك القضاء العام وهو
في السادسة والثلاثين من عمره ، ووجد في قضائه فرصة متاحه له لنشر مذهبه في
الأجتهاد ونبذ التقليد ، والدعوة إلى طريق السلف الصالح ، وظل متولياً منصب
القضاء حتى توفى بصنعاء عام 1250هـ .
3 -
حلّف الشوكاني رحمه الله تعالى مع اشتغاله بالأعمال الكثيرة عدداً كبيراَ من
المؤلفات والرسائل القيمة في مختلف العلوم ، ولم يزل معظم هذا التراث مخطوطاً
وتجدر العناية بتحقيقه ، ودراسته ، وتسهيل السبل إلى طبعه ، حتى تتحقّق
الفائدة .
4 -
تفقّه الشوكاني رحمه الله على مذهب الزيدية ، إلا أنه لم يلبث أن تخلى عن
التقليد والتمذهب ، وأصبح لا يتقيد بفرقة من الفرق أو مذهب من المذاهب ، بل
اعتمد اعتمادا مباشرا على الكتاب والسنة ، وأصبح من المجتهدين في البحث عن
الحكم الشرعي والرأي العقائدي من خلال الأدلة والبراهين ، لا من طريق التقليد
والتلقين ، وقد وصل إلى هذه المرتبة وهو دون الثلاثين من عمره ، وكانت دعوته
إلى الاجتهاد ونبذ التقليد والرجوع بالتشريع إلى طريق السلف تمثل إمتدادا
لأدوار من سبقه من المجددين والمصلحين ، كالإمام مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد
بن حنبل ، وشيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم ، وكابن الوزير ، والمقبلي ،
والأمير الصنعاني ، والإمام محمد بن عبد الوهاب ، ونظائرهم ، رحمهم الله .
وقد تعرض في سبيل الدعوة لأذى كثير من المتعصبين والمقلدين في عصره ، واتهموه
بالدعوة إلى هدم مذهب أهل البيت ، وهو بريء من هذه التهمة ، وهذا شأنهم مع كل
عالم مجتهم آخذ بالدليل .
5 -
أورد الشوكاني رحمه الله أحاديث ضعيفة ومنكرة في فضائل علي بن أبي طالب رضي
الله عنه في بعض كتبه ، وألف في آخر عمره كتابه : الفوائد المجموعة في
الأحاديث الموضوعة ، حيث بين نكارة كثير من تلك الأحاديث . وهذا يدل على أنه
لم يتبين له ما في تلك الأحاديث من النكارة ، ولما نضج علمه توصل إلى هذه
النتيجة في الحكم عليها ، وهو أمر يدل على تطور في علمه بعلوم الحديث ، شأنه
كشأن غيره من العلماء المجتهدين .
6 -
من خلال دراستي لمنهج الشوكاني في العقيدة تبين لي أنه وافق السلف أهل السنة
في جميع أركان الإيمان الستة ، وهي : الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ،
ورسله ، واليوم الآخر ، والقضاء والقدر ، ولم يخالفهم إلا في مسائل قليلة ،
وكان رأيه في بعضها مضطربا بين كتاب وآخر ، كما في بعض الصفات . وفيما يلي
أذكر تلك المسائل مختصرا .
( أ ) في توحيد الألوهية :
أجاز التوسل بالذات والجاه وجعله كالتوسل
بالعمل الصالح ، وهذا مخالف لما قرره ودعا إليه في عدد من كتبه من محاربة
الشرك وسد الذرائع المؤدية إليه .
( ب ) في أسماء الله تعالى :
ذهب إلى جواز تسمية الله بما ثبت من صفاته ،
سواء ورد التوقيف بها أو لم يرد . غير أني لم أقف على تطبيق الشوكاني هذه
القاعدة لا في تفسيره ، ولا في غيره .
( ج ) في صفات الله تعالى :
1 -
أوّل بعض الصفات الإلهية في تفسيره : فتح القدير تأويلا أشعريا . والصفات
التي أولها هي : الوجه ، والعين ، واليد ، والعلو ، والمجيء ، والإتيان ،
والمحبة ، والغضب ، على التفصيل الذي ذكرته في الرسالة . وهذا التأويل مناقض
لمنهجه في رسالته التحف في إثبات الصفات على ظاهرها من غير تحريف ولا تعطيل ،
ولا تكييف ، ولا تمثيل ، وهو مذهب السلف رضوان الله عليهم .
2 -
نهج منهج أهل التفويض في صفة المعية في رسالته التحف ، فلم يفسرها بمعية
العلم ، بل زعم أن هذا التفسير شعبة من شعب التأويل المخالف لمذهب السلف .
وهذا مخالف لما ذهب إليه في تفسيره ةفي كتابه تحفة الذاكرين من أن هذه المعية
معية العلم ، وفسرها هنا تفسير السلف .
3 -
ذهب مذهب الواقفية في مسألة خلق القرآن ، فلم يجزم برأي هل هو مخلوق أو غير
مخلوق ؟
( د ) في نواقض التوحيد :
1 -
أجاز تحري الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين باعتبارها أماكن مباركة يستجاب
الدعاء فيها . وهذا مخالف لما قرره ودعا إليه في عدد من كتبه من سد الذرائع
إلى الشرك في الأموات .
2 -
جعل الحلف بالقرآن كالحلف بمخلوق من مخلوقات
الله .
( هـ ) في النبوات :
يرى التوقف في مسألة التفضيل بين الأنبياء
والرسل عليهم السلام .
هذا وقد سلك الشوكاني رحمه الله تعالى طريقة السلف في الاستدلال لكل مسألة من
مسائل العقيدة التي أثبتها ، فيقدم الأدلة النقلية على العقلية ، ويقدم
المعنى الظاهر من النصوص على معنى المجاز منها ، كما في كتابه التحف ، إلا في
مسألة المعية كما تقدم إيضاحه في فقهة ( 2 ) . وكذلك في تفسيره لمسألة
الاستواء وغيرها من الصفات التي أثبتها في تفسيره ولم يؤولها .
أما ما يظهر في كتبه من اضطراب وتناقض في هذا الباب وغيره وخالف فيه السلف
أهل السنة فيمكن الاعتذار عنه بأنه نشأ وترعرع في بيئة زيدية ، وكانت دراسته
داخلها ولم يخرج منها ، فلعل الظروف المحيطة بهذه البيئة لم تتهيأ له كثيرا
للأطلاع على كتب أئمة السلف أهل السنة والجماعة .
هذا وقد أخطأ الشوكاني فيما أخطأ ، ولا ندعي له العصمة ، ولا نقول عنه إلا
أنه من البشر ، والبشر يخطئون ويصيبون ، وكما قال هو نفسه : " إن الخطأ شأن
البشر ، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم ، والأهوية
تختلف ، والمقاصد تتباين ، وربك يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون " .
ورحمه الله إذ قال :
فكرت في علمي وفي أعمالي *** ونظرت في قولي
وفي أفعالي
فوجدت ما أخشاه منها فوق ما *** أرجو فطاحت عند ذا آمالي
ورجعت نحو الرحمة العظمى إلى *** ما أرتجي من فضل ذي الأفضال
فغدا الرجا والخوف يعتلجان في *** صدري وهذا منتهى أحوالي .ا.هـ.
رابط الموضوع