بسم الله الرحمن الرحيم

بَـحْـثٌ فِـي عِـبَـارة : " فِـي مُـسْـتَـقَـرِ رَحْـمَـتِـهِ "


الحمد لله وبعد ؛
نسمع كثيرا لفظة " في مستقر رحمتك " في الدعاء ، وقد وردت الكراهة بقولها عن بعض السلف . وفي هذا البحث جمعت شتات الموضوع . أسأل الله أن ينفع به .

ما ورد من نصوص بخصوص " مستقر رحمتك " :

الأثر الأول :
عن أبي وجزة ، عن أبيه قال : حضرت الخنساء بنت عمرو السلمية حرب القادسية ، ومعها بنوها أربعة رجال ، فذكر موعظتها لهم وتحريضهم على القتال ، وعدم الفرار ، وفيها : إنكم أسلمتم طائعين ، وهاجرتم مختارين ، وإنكم لبنوا أب واحد وأم واحدة ما هجنت آباءكم ، ولا فضحت أخوالكم فلما أصبحوا باشروا القتال واحدا بعد واحد حتى قتلوا ، وكان منهم أنشد قبل أن يستشهد رجزا فأنشد الأول :
يا إخوتي إن العجوز الناصحة * قد نصحتنا إذ دعتنا البارحة
بمقالة ذات بيان واضحة * وإنما تلقون عند الصائحة
من آل ساسان كلابا نابحة

وأنشد الثاني :
إن العجوز ذات حزم وجلد * قد أمرتنا بالسداد والرشد
نصيحة منها وبرا بالولد * فباكروا الحرب حماة في العدد

وأنشد الثالث :
والله لا نعصي العجوز حرفا * نصحا وبرا صادقا ولطفا
فبادروا الحرب الضروس زحفا * حتى تلفوا آل كسرى لفا

وأنشد الرابع :
لست لخنساء ولا للأخرم * ولا لعمرو ذي السناء الأقدم
إن لم أرد في الجيش جيش الأعجم * ماض على الهول خضم حضرمي

قال : فبلغها الخبر فقالت : الحمد لله الذي شرفني بقتلهم ، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته ، قالوا : وكان عمر بن الخطاب يعطي الخنساء أرزاق أولادها الأربعة حتى قبض .

أخرج القصة ابن عبد البر في " الاستيعاب " (12/294 – 298 حاشية الإصابة ) ، وابن الأثير في " أسد الغابة " (7/90) بسياق ليس فيه الشعر المذكور من أبناءها ، والحافظ في " الإصابة " (12/227 – 228) ، بإسناد :

وذكر الزبير بن بكار ، عن محمد بن الحسن المخزومي ، وهو المعروف بابن زبالة ، عن عبدالرحمن بن عبدالله ، عن أبيه ، عن أبي وجزة به .

وسياق القصة للحافظ ابن حجر ، وإلا فهي عند ابن عبد البر أطول من هذا السياق .

وأعل الحافظ ابن حجر سندها فقال في سياق سندها : عن محمد بن الحسن المخزومي ، وهو المعروف بابن زبالة ، أحد المتروكين .ا.هـ.

ومحمد بن الحسن بن زَبَالة كلام أهل العلم بالجرح والتعديل فيه معروفٌ ، ولخص الحافظ ابن حجر كلام أهل العلم في " التقريب " : كذبوه .

فالقصة واهية بهذا الرجل فقط ، فما بالك إذا وجد في سندها غيره ؟

والشاهد من القصة قولها : " وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته "

الأثر الثاني :
عن أبي الحارث الكرماني قال : سمعت رجلا قال لأبي رجاء : أقرأ عليك السلام ، وأسأل الله أن يجمع بيني وبينك في مستقر رحمته . قال : وهل يستطيع أحد ذلك ؟ قال : فما مستقر رحمته ؟ قال : الجنة . قال : لم تُصِب . قال : فما مستقر رحمته ؟ قال : رب العالمين .

أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (768) ، وأورده المزي في " تهذيب الكمال " (33/215) عند ترجمة أحد رجال السند وهو " أبو الحارث الكرماني " .

بوب له البخاري في " الأدب المفرد " : باب من كره أن يقال : " اللهم اجعلني في مستقر رحمتك " .

وصححه إسناده العلامة الألباني – رحمه الله – في صحيح الأدب المفرد (591) . وصحح إسناده أيضا أبو إسحاق الحويني في كتاب " الصمت وآداب اللسان " لابن أبي الدنيا ( ص 194) .

ومن خلال تبويب الإمام البخاري يظهر أن بعض السلف كرهوا هذه اللفظة .

الأثر الثالث :
قَالَ وَهْب أَيْضًا وَغَيْره : وَلَمَّا اِشْتَرَى مَالِكُ بْن دعر يُوسُف مِنْ إِخْوَته كَتَبَ بَيْنهمْ وَبَيْنه كِتَابًا : هَذَا مَا اِشْتَرَى مَالِك بْن دعر مِنْ بَنِي يَعْقُوب , وَهُمْ فُلَان وَفُلَان مَمْلُوكًا لَهُمْ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا , وَقَدْ شَرَطُوا لَهُ أَنَّهُ آبِق , وَأَنَّهُ لَا يَنْقَلِب بِهِ إِلَّا مُقَيَّدًا مُسَلْسَلًا , وَأَعْطَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ عَهْد اللَّه . قَالَ : فَوَدَّعَهُمْ يُوسُف عِنْد ذَلِكَ , وَجَعَلَ يَقُول : حَفِظَكُمْ اللَّه وَإِنْ ضَيَّعْتُمُونِي , نَصَرَكُمْ اللَّه وَإِنْ خَذَلْتُمُونِي , رَحِمَكُمْ اللَّه وَإِنْ لَمْ تَرْحَمُونِي ; قَالُوا : فَأَلْقَتْ الْأَغْنَام مَا فِي بُطُونهَا دَمًا عَبِيطًا لِشِدَّةِ هَذَا التَّوْدِيع , وَحَمَلُوهُ عَلَى قَتَب بِغَيْرِ غِطَاء وَلَا وِطَاء , مُقَيَّدًا مُكَبَّلًا مُسَلْسَلًا , فَمَرَّ عَلَى مَقْبَرَة آل كَنْعَان فَرَأَى قَبْر أُمّه - وَقَدْ كَانَ وُكِّلَ بِهِ أَسْوَد يَحْرُسهُ فَغَفَلَ الْأَسْوَد - فَأَلْقَى يُوسُف نَفْسه عَلَى قَبْر أُمّه فَجَعَلَ يَتَمَرَّغ وَيَعْتَنِق الْقَبْر وَيَضْطَرِب وَيَقُول : يَا أُمَّاهُ ! اِرْفَعِي رَأْسك تَرَيْ وَلَدك مُكَبَّلًا مُقَيَّدًا مُسَلْسَلًا مَغْلُولًا ; فَرَّقُوا بَيْنِي وَبَيْن وَالِدِي , فَاسْأَلِي اللَّه أَنْ يَجْمَع بَيْننَا فِي مُسْتَقَرّ رَحْمَته إِنَّهُ أَرْحَم الرَّاحِمِينَ ... القصة .

وهذه القصة من الإسرائيليات أوردها القرطبي في " الجامع " (9/105) عند تفسير قوله تعالى : " وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ " [ يوسف : 21 ] ، والتي لا يعول عليها ، وخاصة أنها من رواية وهب بن منبه وهو ممن عرف برواية الإسرائيليات .

الأثر الرابع :
عن مجاهد أنه كان يكره أن يقول : اللهم ادخلني في مستقر من رحمتك ، فإن مستقر رحمته هو نفسه .

أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب " الصمت وآداب اللسان " (347) بسنده فقال :
حدثنا عبد الرحمن بن صالح ، حدثنا عبد الله بن قُبَيصة ، عن ليث ، عن مجاهد به .

وضعف إسناده المحقق الشيخ أبو إسحاق الحويني فقال : إسناده ضعيف . وعبد الله بن قبيصة ، قال العقيلي : " لا يتابع على كثير من حديثه " . وقال ابن عدي : " له مناكير " – كما في " الميزان " ، وليث هو ابن أبي سليم فيه مقال أيضا ، ولم أقف عليه من قول مجاهد .ا.هـ.

كلام أهل العلم عليها :

تكلم أهل العلم عن لفظة : " في مستقر رحمته " ، وهذه أقوالهم فيها :

1 - قال الإمام النووي في " الأذكار " ( ص 547) :
فصل : ومن ذلك ما رواه النحاسُ عن أبي بكر محمد بن يحيى قال : وكان من الفقهاء الأدباء العلماء ، قال : لا تقلْ : جمعَ اللّه بيننا في مستقرُ رحمته ، فرحمةُ اللّه أوسعُ من أن يكون لها قرار ؛ قال : لا تقلْ : ارحمنا برحمتك .

قلت : لا نعلمُ لما قاله في اللفظين حجة ، ولا دليلَ له فيما ذكره ، فإن مرادَ القائل بمستقرّ الرحمة : الجنة ، ومعناه : جمعَ بيننا في الجنة التي هي دار القرار ودار المقامة ومحل الاستقرار ، وإنما يدخلها الداخلون برحمة اللّه تعالى ، ثم من دخلَها استقرّ فيها أبداً ، وأمِنَ الحوادث والأكدار ، وإنما حصل له ذلك برحمة اللّه تعالى ، فكأنه يقول : اجمع بيننا في مستقرّ نناله برحمتك .ا.هـ.

2 - ونقل البعلي عن شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاختيارات الفقهية " ( ص 460) ما نصه :
وَيُكْرَهُ الدُّعَاءُ بِالْبَقَاءِ لِكُلِّ أَحَدٍ لِأَنَّهُ شَيْءٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي أَصْرَمَ .
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ جَمَعَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ فِي مُسْتَقَرِّ رَحْمَتِهِ فَقَالَ : لَا تَقُلْ هَذَا .
وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ - يعني شيخ الإسلام - : يَمِيلُ إلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الدُّعَاءُ بِذَلِكَ .
وَيَقُولُ : إنَّ الرَّحْمَةَ هَهُنَا الْمُرَادُ بِهَا الرَّحْمَةُ الْمَخْلُوقَةُ ، وَمُسْتَقَرُّهَا الْجَنَّةُ ، وَهُو قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ .ا.هـ.

3 - وقال الإمام ابن القيم في " بدائع الفوائد " (2/253 -254) :
وعلى هذا فلا يمتنع الدعاء المشهور بين الناس قديما وحديثا وهو قول الداعي اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك ، وذكره البخاري في كتاب " الأدب المفرد " له عن بعض السلف ، وحكى فيه الكراهة قال : إن مستقر رحمته ذاته ، وهذا بناء على أن الرحمة صفة ، وليس مراد الداعي ذلك بل مراده الرحمة المخلوقة التي هي الجنة .

ولكن الذين كرهوا ذلك لهم نظر دقيق جدا ، وهو أنه إذا كان المراد بالرحمة الجنة نفسها لم يحسن إضافة المستقر إليها ، ولهذا لا يحسن أن يقال اجمعنا في مستقر جنتك فإن الجنة نفسها هي دار القرار ، وهي المستقر نفسه كما قال : " حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا " [ الفرقان : 76 ] فكيف يضاف المستقر إليها ؟ والمستقر هو المكان الذي يستقر فيه الشيء ، ولا يصح أن يطلب الداعي الجمع في المكان الذي تستقر فيه الجنة فتأمله ، ولهذا قال مستقر رحمته ذاته ،
والصواب : أن هذا لا يمتنع ، حتى ولو قال صريحا : " اجمعنا في مستقر جنتك " ، لم يمتنع ، وذلك أن المستقر أعم من أن يكون رحمة أو عذابا ، فإذا أضيف إلى أحد أنواعه أضيف إلى ما يبينه ويميزه من غيره ، كأنه قيل في المستقر الذي هو رحمتك لا في المستقر الآخر .

ونظير هذا أن يقال : " اجلس في مستقر المسجد " ، أي : المستقر الذي هو المسجد ، والإضافة في مثل ذلك غير ممتنعة ولا مستكرهة ، وأيضا : فإن الجنة وإن سميت رحمة لم يمتنع أن يسمى ما فيها من أنواع النعيم رحمة ، ولا ريب أن مستقر ذلك النعيم هو الجنة فالداعي يطلب أن يجمعه الله ومن يحب في المكان الذي تستقر فيه تلك الرحمة المخلوقة في الجنة ، وهذا ظاهر جدا فلا يمتنع الدعاء بوجه والله أعلم .ا.هـ.

وقال في موضع آخر (4/95 -96) :
ومن مسائل أحمد بن أحرم بن خزيمة بن عباد بن عبد الله ابن حسان بن عبد الله بن المغفل المزني الصحابي
سمعته وقال له رجل : " جمعنا الله تعالى وإياك في مستقر رحمته " ، فقال : " لا تقل " هكذا .

قلت : اختلف السلف في هذه الدعوة ، وذكرها البخاري في كتاب " الأدب المفرد " له ، وحكى عن بعض السلف أنه كرهها ، وقال : " مستقر رحمته ذاته " ، هذا معنى كلامه ، وحجة من أجازها ولم يكرهها ، الرحمة ههنا المراد : الرحمة المخلوقة ، ومستقرها الجنة ، وكان شيخنا يميل إلى هذا القول .ا.هـ.

ويقصد بشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية ، وقد مر معنا رأيه كما نقله عنه البعلي في " الاختيارات " .

4 - وقال السيوطي في " الحاوي " (1/253) :
مسألة : رجل قال : اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك ، فأنكر عليه شخص فمن المصيب ؟
الجواب : هذا الكلام أنكره بعض العلماء ، ورد عليه الأئمة منهم النووي وقال : الصواب جواز ذلك ، ومستقر الرحمة هو الجنة .ا.هـ.

5 - وقال العلامة الألباني في تعليقه على أثر أبي العطاردي في " صحيح الأدب المفرد " ( ص 286 – 287) :
وهذا الأثر عنه - أي عن أبي رجاء العطاردي - يدل على فضله وعلمه ، ودقة ملاحظته ، فإن الجنة لا يمكن أن تكون مستقر رحمته تعالى ؛ لأنـها صفة من صفاته ، بخلاف الجنة فإنـها خلق من خلق الله ، وإن كان استقرار المؤمنين فيها إنما هو برحمته تعالى ، كما في قوله تعالى : " وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " [ آل عمران : 107 ] يعني الجنة .ا.هـ.

6 - وذكر الشيخ بكر أبو زيد في " معجم المناهي اللفظية " مبحث عبارة " مستقر رحمتك " في عدة مواضع وهي :
نقل في ( ص 333 – 334) عند عبارة " صباح الخير " كلاما لابن حجر الهيتمي من الفتاوى الحديثية ، وفي آخره : ... وزعم أنه يكره أن يقول : ارحمنا برحمتك ، كاجمع بيننا في مستقر رحمتك ، يردهما أنه لا دليل له بوجه إذ المراد : اجمع بيننا في الجنة التي هي دار القرار ولا تنال إلا بالرحمة .ا.هـ.

ونقل في ( ص 599) عند عبارة " ارحمنا برحمتك " كلام الإمام النووي الذي ذكرناه آنفا .

وقال في ( ص 604) عند عبارة " الهم اجمعنا في مستقر رحمتك " :
حرر ابن القيم – رحمه الله – القول في هذا الدعاء ، مرجحا جواز الدعاء بذلك على قول من قال بالكراهة من السلف فقال – رحمه الله تعالى – في مبحث كلامه على الرحمة والبركة من تحية الإسلام المضافتين إلى الله تعالى على نوعين :
أحدهما : مضاف إليه إضافة مفعول إلى فاعله ، والثاني : مضاف إليه إضافة صفة إلى الموصوف بها . وذكر للأول منهما عدة نصوص : منها قوله صلى الله عليه وسلم : " خلق الله الرحمة يوم خلقها مئة رحمة " الحديث . ثم قال : ... ا.هـ.

ونقل كلام ابن القيم الآنف الذكر .

وذكر في ( ص 633) عند عبارة " جمعنا الله في مستقر رحمته " حديث البخاري في " الأدب المفرد" ، ثم قال : والذي رجحه ابن القيم – رحمه الله تعالى – في " البدائع 2/184 " جواز الدعاء به ، وفي " بدائع الفوائد 4/72 " ذكر أن شيخه مال إليه . والله أعلم .ا.هـ.

وبعد هذه النقول نجد أن بعض السلف كره هذه اللفظة ، والبعض الآخر من العلماء أجازوها ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم .

وقد وجدت بعض المؤلفين يستخدم هذه العبارة حال الدعاء ، ولو ذكرت أمثلة لطال بنا المقام . وفي هذا القدر كفاية . والله أعلم .

نسخة من البحث على ملف اكروبات

كتبه
عَـبْـد الـلَّـه بن محمد زُقَـيْـل
zugailam@islamway.net