بسم الله الرحمن الرحيم

موقف أهل السنة من مجادلة أهل البدع ومناظرتهم


الحمد لله وبعد :
لقد وضع أهل السنة والجماعة قواعد وضوابط في مجادلة أهل البدع ومناظرتهم ، وقبل أن أنقل هذه القواعد والضوابط لابد لنا من معرفة سمات أهل البدع .

فمن سماتهم :

1) الفرقة :
قال تعالى : " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم " . (آل عمران :105) .

2) اتباع الهوى :
قال تعالى : " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم " . (الجاثية : 23) .

3) اتباع المتشابه :
قال تعالى : " ... فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " . (آل عمران : 7) .

عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : " هوالذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " .
قالت : فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم .
رواه البخاري 4547

4) معارضة السنة بالقرآن :
قال الإمام البربهاري : إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار ، أو يرد الآثار ، أو يريد غير الآثار فاتهمه على الإسلام ، ولا تشك أنه صاحب هوى مبتدع .
شرح السنة (ص51)

5) بغض أهل الأثر :
عن أحمد بن سنان القطان قال : ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث .
رواه الصابوني في عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص300) .

6) إطلاق الألقاب على أهل السنة :
قال أبو حاتم الرازي :
علامة أهل البدع : الوقيعة في أهل الأثر .
وعلامة الزنادقة : تسميتهم أهل الأثر حشوية ، يريدون بذلك إبطال الآثار .
وعلامة القدرية : تسميتهم أهل السنة مجبرة .
وعلامة الجهمية : تسميتهم أهل السنة مشبهة .
وعلامة الرافضة : تسميتهم أهل الأثر نابتة ، وناصبة .
قلت : وكل ذلك عصبية ، ولا يلحق أهل السنة إلا اسم واحد وهو أصحاب الحديث .

رواه الصابوني في عقيدة أهل الحديث (ص304-305) .

ولنا وقفة يسيرة مع قول أبي حاتم الآنف الذكر .

فأهل البدع يلقبون أهل السنة يألقاب شتى ، فمن تلك الألقاب :

1) مُــشَــبِّــهــةٌ :
وهذا اللقب من أشنع الألقاب التي نبزهم بها مخالفوهم في باب الأسماء والصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة .

أما الجهمية : روى الإمام اللالكائي عن إسحاق بن راهويه قال : علامة جهم وأصحابه دعواهم على أهل الجماعة وما أولعوا به من الكذب أنهم مشبهة .
شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/179) .

وأما المعتزلة : قال شيخ الإسلام في الفتاوى (5/110) : أن جل المعتزلة تدخل عامة الأئمة مثل مالك وأصحابه ، والثوري وأصحابه ، والأوزاعي وأصحابه ، والشافعي وأحمد وأصحابه ، وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم في قسم المشبهة .

بل رمى بعضهم الأنبياء بأنهم مشبهة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (5/110) : قال ثمامة بن الأشرس ... : ثلاثة من الأنبياء مشبهة موسى حيث قال : إن هي إلا فتنتك ، وعيسى حيث قال : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ، ومحمد صلى الله عليه وسلم حيث قال : ينزل ربنا .

وأما الأشاعرة : فقد قال الجويني : وأعلموا أن مذهب أهل الحق أن الرب سبحانه وتعالى يتقدس عن شغل حَيِّز ، ويتنزه عن الاختصاص بجهة .
وذهب المشبهة إلى أن الله - تعالى عن قولهم - مختص بجهة فوق .

2) مُــجْــبِــرَةٌ :
قال القاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة (ص775) :
والذين يثبتون القدر هم المجبرة فأما نحن فإنا ننفيه ، وننزه الله تعالى أن تكون الأفعال بقضائه وقدره .

3) نُــقــصــانــيَّــة .

4) مُــخَــالِــفَةٌ .

5) شُــكَّــاك .

روى الإمام اللالكائي عن أبي حاتم : وعلامة المرجئة تسميتهم أهل السنة مخالفة ونقصانية .
شرح أصول أهل السنة (1/179) .

وقال الإمام أحمد : فأما المرجئة : فيسمون أهل شكاكا ....

6) ناصبة :

وهو من الألقاب الشنيعة التي رماهم بها الرافضة .

7) العامة ، والجمهور.

8) حَــشْــوِيَّــةٌ .

وفي هذا القدر كفاية .


إن قول الله تعالى : " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ " (آل عمران :7) أصل في تميز أهل السنة والجماعة عن غيرهم من أهل البدع والأهواء من جهة إتباعهم للمحكم وعدم خوضهم في المتشابه .

قال ابن كثير في تفسيره (2/10) :
" فأما الذين في قلوبهم زيغ " أي : ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل " فيتبعون ما تشابه منه " أي : إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها ، لاحتمال لفظه لما يصرفونه ، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه ، لأنه دامغ لهم وحجة عليهم .ا.هـ.

ولهذا جاء عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " .
قالت : فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم .

رواه البخاري (4547) ، ومسلم (2665) ، وأبو داود (4598) ، والترمذي (2994) ، وابن ماجة (47) .

قال الإمام النووي في شرح مسلم (16/218) :
وفي هذا الحديث التحذير من مخالطة أهل الزيغ وأهل البدع ، ومن يتبع المشكلات للفتنة ، فأما من سأل عما أشكل عليه منها للاسترشاد وتلطف في ذلك فلا بأس عليه وجوابه واجب ، وأما الأول فلا يجاب بل يزجر ويعزر كما عزر عمر بن الخطاب رضي الله عنه صَبِيغ بن عِسْل حين كان يتبع المتشابه .ا.هـ.

وقصة صَبيغ بن عِسل من القصص العظيمة التي تبين كيف كان سلف هذه الأمة يعالجون أصحاب الشبه والتعنت ، وسأذكر القصة لما فيها من العبرة ، ولأنها داخلة فيما نحن بصدده من الكلام عن أهل البدع والأهواء .

روى اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/701 رقم 1136) بإسناده أن السايب بن يزيد أتى عمر بن الخطاب فقيل : يا أمير المؤمنين إنا لقينا رجلا يسأل عن تأويل القرآن ؟
فقال عمر : اللهم مكني منه .
قال فبينما عمر ذات يوم جالسا يغدي الناس إذ جاء عليه ثياب وعمامة فتغدا حتى إذا فرغ قال : يا أمير المؤمنين " والذاريات ذروا . فالحاملات وقرا " . فقال عمر : أنت هو ؟ فقام إليه وحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته فقال : والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا – يعني من الخوارج فإن سيماهم التحالق – لضربت رأسك البسوه ثيابا واحملوه على قتب ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلاده ثم ليقم خطيبا ثم يقول : إن صبيغا ابتغى العلم فاخطأه فلم يزل وصبيغا في قومه حتى هلك وكان سيد قومه .

قال المحقق : رجاله ثقات رجال الشيخين ما عدا شيخ المؤلف وشيخه فهما ثقتان وجدا بعد الشيخين .ا.هـ.

والقصة لها روايات كثيرة ولكني أكتفي بهذه الرواية .

وقد بوب اللالكائي لهذا الأثر وغيره " سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين في مجانبة أهل القدر وسائر أهل الأهواء " .

وقال الصابوني في عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص236) :
وروى يزيد بن هارون في مجلسه حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله في الرؤية ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم تنظرون إلى ربكم كما تنظرون إلى القمر ليلة البدر . فقال له رجل في مجلسه : يا أبا خالد ما معنى هذا الحديث ؟ فغضب وحرد وقال : ما أشبهك بصَبيغ وما أحوجك إلى مثل ما فعل به ويلك ومن يدري كيف هذا ومن يجوز له أن يجاوز هذا القول الذي جاء به الحديث ، أو يتكلم فيه بشيء من تلقاء نفسه إلا من سفه نفسه واستخف بدينه ؟ إذا سمعتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعوه ولا تبتدعوا فيه فإنكم إن اتبعتموه ولم تماروا فيه سلمتم وإن لم تفعلوا هلكتم .

أما ما ورد عن السلف في عدم مجادلة أهل البدع فهو كثير جدا ، وقد اخترت بعضا منها فمن ذلك :

عن أبي قِلابة رحمه الله أنه قال : لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم .

وعن أيوب السختياني قال : قال لي أبوقلابة : يا أيوب ، احفظ عني أربعا : لا تقولون في القرآن رأيك ، وإياك والقدر ، وإذا ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأمسك ، ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك .

وعن الفضيل بن عياض قال : لا تجادلوا أهل الخصومات فإنهم يخوضون في آيات الله .

وعن حنبل بن إسحاق قال : كتب رجل إلى أبي عبد الله ( يعني الإمام أحمد ) كتابا يستأذنه فيه أن يضع كتابا يشرح فيه الرد على أهل البدع وأن يحضر مع أهل الكلام فيناظرهم ، ويحتج عليهم ، فكتب إليه أبو عبد الله : بسم الله الرحمن الرحيم أحسن الله عاقبتك ، ودفع عنك كل مكروه ومحذور ، الذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا من أهل العلم : أنهم كانوا يكرهون الكلام ، والجلوس مع أهل الزيغ ، وإنما الأمور في التسليم ، والانتهاء إلى ما كان في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في الجلوس مع أهل البدع والزيغ لترد عليهم ، فإنهم يلبسون عليك ولا هم يرجعون فالسلامة إن شاء الله في ترك مجالستهم والخوض معهم في بدعتهم وضلالتهم .

وهذا كلام نفيس للإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/19) نحتاجه في هذه الأزمان يقول :
فما جنى على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة ، ولم يكن قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة ، يموتون من الغيظ كمدا ودردا ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلا ، حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقا ، وصاروا إلى هلاك الإسلام دليلا ، حتى كثرت بينهم المشاجرات ، وظهرت دعوتهم بالمناظرة ، وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة حتى تقابلت الشبه في الحجج ، وبلغوا من التدقيق في اللجج فصاروا أقرانا وأخدانا ، وعلى المداهنة خلانا وإخوانا ، بعد أن كانوا في الله أعداء وأضدادا وفي الهجرة في الله أعوانا يكفرونهم في وجوههم عيانا ، ويلعنونهم جهارا ، وشتان ما بين المنزلتين وهيهات ما بين المقامين .ا.هـ

كتبه عَـبْـد الـلَّـه زُقَـيْـل
zugailam@yahoo.com