بسم الله الرحمن الرحيم

فَـوَائِـدُ مُـنْـتَـقَـاةٌ مِـن تَـفْـسِـيـرِ ابِـنِ كَـثِـيـرٍ (1)


الــــحــــمــــدُ لــــلــــهِ وبــــعــــدُ ؛
كما هو معلوم لدى الكثير من طلبة العلم بصفة خاصة والناس بعامة أن تفسير ابن كثير من التفاسير السلفية التي التزم فيها المؤلف - رحمه الله - بعقيدة السلف في آيات العقائد والأسماء والصفات إلى جانب منزلة هذا التفسير بين جمهور المفسرين ولهذا اهتم به العلماء وطلبة العلم قراءة وتدريسا وتعليقا ونقلا .
ولهذا التفسير مميزاته التي تميز بها فمن ذلك :
- اختياره أحسن الطرق في تفسير القرآن والتي هي :
تفسير القرآن بالقرآن .
تفسير القرآن بالسنة .
تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين .
- اهتمامه باللغة وعلومها واعتبارها من أهم مصادر التفسير .
- اهتمامه بذكر أسانيد الأحاديث ونقدها .
- اهتمامه بذكر القراءات وأسباب النزول .
إلى غير ذلك من المميزات التي لا نطيل في ذكرها .
وهذا التفسير المبارك أثنى عليه كثير من العلماء المتقدمون والمتأخرون - رحم الله الجميع -
قال السيوطي : وله التفسير الذي لم يؤلف على نمطه مثله .
وقال الشوكاني : وله التفسير المشهور وهو في مجلدات وقد جمع في فأوعى ونقل المذاهب والأخبار ولآثار وتكلم بأحسن كلام وأنفسه وهو من أحسن التفاسير إن لم يكن أحسنها .
وقال أحمد شاكر في عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير : وبعد فإن تفسير الحافظ ابن كثير أحسن التفاسير التي رأينا ، وأجودها وأدقها بعد تفسير إمام المفسيرين أبي جعفر الطبري .

وقد اخْتُصِر الكتاب عدة مختصرات وهي كما يلي :
1 - عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير
اختصار وتحقيق الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله -
قال الشيخ : ثم رأيت أن أبدأ بالذي هو أيسر وأقرب للناس وهو التفسير المختصر .ا.هـ.
ولكن الشيخ مات قبل أن يتم هذا المختصر - رحمه الله رحمة واسعة -
وقد طبع منه خمسة أجزاء فقط ، من أول التفسير حتى نهاية الكلام على قوله تعالى : " ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون " ( الأنفال آية 8 ).

2 - مختصر تفسير ابن كثير . اختصار وتحقيق : محمد علي الصابوني - المعاصر -
وهذا المختصر حرف الصابوني فيه تحريفا عظيما لكلام ابن كثير وقد شرق بمنهج ابن كثير السلفي في عقيدة التوحيد وابن كثير بريء من ذلك .

ولهذا حذر العلماء وطلبة العلم من مختصرات الصابوني - المعاصر - وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز في رسالة بعنوان " تنبيهات هامة على ما كتبه الشيخ محمد علي الصابوني في صفات الله عزوجل .

وكذلك الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني في مقدمة الجزء الرابع من " السلسلة الصحيحة " وفي مواضع من من الجزئين الثالث والرابع من " السلسلة الضعيفة " (3/310 ، 471 ، 593) - (4/51 ، 412) .

وهناك رسالة قيمة للشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد بعنوان " التحذير من مختصرات محمد علي الصابوني في التفسير " ذكر فيها ما فعله هذا الخلفي الصوفي من تحريف وتضليل للمختصرات التي اختصرها - بزعمه -.

3 - تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير . اختصار الشيخ محمد نسيب الرفاعي . وهذا الكتاب مطبوع في أربعة مجلدات .
- مختصر تفسير ابن كثير . اختصار الشيخ محمد كريم سعيد راجح .

4 - لباب التفسير من ابن كثير . د/ عبدالله بن محمد آل الشيخ .

وأحسن هذه المختصرات وأصحها وأفضلها عمدة التفسير لأحمد شاكر فهو أقرب هذه المختصرات إلى روح تفسير ابن كثير ولفظه ومعناه إضافة إلى ما اشتمل عليه من تحقيقات وتخريجات جيدة .
ولكن يبقى الرجوع إلى اصل التفسير هو المفيد وأن لا يعول طالب العلم على شيء من هذه المختصرات .
وقد قرأنا هذا السفر العظيم على أحد طلبة العلم مدة من الزمن ، وكنت أقيد الفوائد التي أمر عليها على طرة الكتاب فأحببت أن أكتب هذه الفوائد في هذه الصفحة أسأل الله أن ينفع بها .

فَـائِـدَةٌ (1)

هـل في الـجـنِ رسـلٌ أم نُذُرٌ ؟
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في سورة الأحقاف (7/285) عند قول تعالى : " وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ " [ الأحقاف : 29 ] :

وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى أَنَّهُ فِي الْجِنّ نُذُر وَلَيْسَ فِيهِمْ رُسُل وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجِنّ لَمْ يَبْعَث اللَّه تَعَالَى مِنْهُمْ رَسُولًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى " وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلك إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْل الْقُرَى " [ يوسف : 109 ] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ" وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَك مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَام وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاق " [ الفرقان : 20 ] ، وَقَالَ عَنْ إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام " وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّته النُّبُوَّة وَالْكِتَاب " [ العنكبوت : 27 ] ، فَكُلّ نَبِيّ بَعَثَهُ اللَّه تَعَالَى بَعْد إِبْرَاهِيم فَمِنْ ذُرِّيَّته وَسُلَالَته فَأَمَّا قَوْله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْأَنْعَام " يَا مَعْشَر الْجِنّ وَالْإِنْس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُل مِنْكُمْ " [ الأنعام : 130] ؛ فَالْمُرَاد مِنْ مَجْمُوع الْجِنْسَيْنِ فَيَصْدُق عَلَى أَحَدهمَا وَهُوَ الْإِنْس كَقَوْلِهِ " يَخْرُج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ وَالْمَرْجَان " [ الرحمن : 22 ] أَيْ أَحَدهمَا .

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى فَسَّرَ إِنْذَار الْجِنّ لِقَوْمِهِمْ فَقَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ " قَالُوا يَا قَوْمنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْد مُوسَى " [ الأحقاف : 30 ] ، وَلَمْ يَذْكُرُوا عِيسَى لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْإِنْجِيل فِيهِ مَوَاعِظ وَتَرْقِيقَات وَقَلِيل مِنْ التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة كَالْمُتَمِّمِ لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاة فَالْعُمْدَة هُوَ التَّوْرَاة فَلِهَذَا قَالُوا أُنْزِلَ مِنْ بَعْد مُوسَى وَهَكَذَا قَالَ وَرَقَة بْن نَوْفَل حِين أَخْبَرَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِصَّةِ نُزُول جِبْرِيل عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَوَّل مَرَّة فَقَالَ بَخٍ بَخٍ هَذَا النَّامُوس الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى يَا لَيْتَنِي أَكُون فِيهَا جَذَعًا " .ا.هـ. كلامه

وهذه المسألة التي ذكرها ابن كثير فيها خلاف بين أهل العلم على ثلاثة أقوال :

الـقـولُ الأولُ :
أن رسل الجن هم من البشر ولم يبعث إلى الجن رسول منهم وهو رأي الجمهور من العلماء واستدل الجمهور بالكتاب والسنة .
فمن الكتاب قوله تعالى : " يَا مَعْشَر الْجِنّ وَالْإِنْس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُل مِنْكُمْ " [ الأنعام : 130] .

الـقـولُ الـثـانـي :
أنه ليس في الجن رسل ولكن منهم نذر عن الرسل وهو مروي عن ابن عباس ومجاهدوابن جريج وأبو عبيد .
وقد استدل الفريق الثاني بنفس أدلة الفريق الأول قالقولين معناهما واحد .

الـقـولُ الـثـالـثُ :
أنه قد بعث إلى الجن رسل منهم وهو رأي مقاتل والضحاك وابن حزم الأندلسي .
ولكل فريق أدلة يطول ذكرها في هذا المقام ولكن قول الجمهور هو الأقرب إلى الصواب والله أعلم .

تـعـقـيـبٌ لـلـشـيـخِ الـشـنـقـيـطـي :
لقد تعقب الشيخ الشنقيطي في " أضواء البيان " (7/748) ابن كثير عند قوله : " يَخْرُج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ وَالْمَرْجَان " أي : أحدهما . فقال الشيخ :
قوله تعالى : " يَخْرُج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ وَالْمَرْجَان " .

اعلم أن جماعة من أهل العلم قالوا : إن المراد بقوله في هذه الآية يخرج منهما أي من مجموعهما الصادق بالبحر الملح ، وأن الآية من إطلاق المجموع وإرادة بعضه ، وأن اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان من البحر الملح وحده دون العذب .

وهذا القول الذي قالوه في هذه الآية مع كثرتهم وجلالتهم لا شك في بطلانه ، لأن الله صرح بنقيضه في سورة فاطر ، ولا شك أن كل ما ناقض القرآن فهو باطل ، وذلك في قوله : " وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا " [ فاطر : 12 ]فالتنوين في قوله : " وَمِنْ كُلٍّ " تنوين عوض أي من كل واحد من العذب والملح تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وهي اللؤلؤ والمرجان وهذا مما لا نزاع فيه .

وقد أوضحنا هذا في سورة الأنعام في الكلام على قوله : " يا معشر الجن والأنس ألم يأتكم رسل منكم " ............ا.هـ.

وقد علق الشيخ عطية سالم بقوله : هذا الاستنتاج الذي توصل إليه فضيلة الوالد - رحمه الله - يعتبر فتحا لأنه توصل إليه استنتاجا فجاء الواقع يشهد بذلك وإن لم يطلع عليه - رحمه الله - .

وقال الشنقيطي أيضا في الأضواء (2/188) عند قوله تعالى : " يَا مَعْشَر الْجِنّ وَالْإِنْس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُل مِنْكُمْ " [ الأنعام : 130] " :

قال بعض العلماء : المراد بالرسل من الجن نذرهم الذين يسمعون كلام الرسل ، فيبلغونه إلى قومهم ويشهد لهذا أن الله ذكر أنهم منذرين لقومهم في قوله : " وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [ الأحقاف : 29 ] .

وقال بعض العلماء : " رُسُل مِنْكُمْ " أي من مجموعكم الصادق بخصوص الإنس : لأنه لا رسل من الجن ويستأنس لهذا القول بأن القرآن ربما أطلق فيه المجموع مرادا بعضه كقوله : " وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا " [ نوح : 17 ] ، وقوله : " فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا " [ الشمس : 14 ] مع أن العاقر واحد منهم ، كما بينه بقوله : " فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ " [ القمر : 29 ] .

واعلم أن ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وغيره من أجلاء العلماء في تفسير هذه الآية من أن قوله : " يَخْرُج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ وَالْمَرْجَان " [ الرحمن : 22 ] يراد به البحر الملح خاصة دون العذب غلط كبير ، لا يجوز القول به . لأنه مخالف مخالفة صريحة لكلام الله تعالى ، لأن الله ذكر البحرين الملح والعذب بقوله : " وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ " [ فاطر : 12 ] ، ثم صرح باستخراج اللؤلؤ والمرجان منهما جميعا بقوله : " وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا " ، والحلية المذكورة هي اللؤلؤ والمرجان ، فقصره على الملح مناقض للآية صريحا كما ترى .ا.هـ.

ومع فائدة أخرى إن شاء الله .

الفائدة الثاني

رابط الموضوع

كتبه عبد الله زقيل
zugailam@yahoo.com