بسم الله الرحمن الرحيم

كفر تارك الصلاة

 
السؤال :
عشت شطراً من عمري في حال بُعدٍ و إعراض عن دين الله ، و لم أبدأ في أداء الصلوات المفروضة إلاّ على كِبَر ، مع أني كنت أحافظ على الصيام و القيام ببعض الواجبات الشرعيّة قبل ذلك ، و بعد أن امتنّ الله تعالى عليَّ بالتوبة أردتُ أن أقضي الصلوات التي فاتني أداؤها في شبابي ، فاستفتيت أحد الدعاة هنا ، فقال لي : إن تارك الصلاة كافر ، و بالتالي فإنّ عليه التوبة و تجديد إيمانه ، و ليس عليه أن يقضي ما فاته أثناء تركه للصلاة بالكلّيّة ، فهل ما ذهب إليه صحيح ؟ أفتونا مأجورين .
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إنّ الصلاة ركنٌ من أركان الإسلام واجبةٌ متعيّنةٌ بالإجماع على كلّ مسلمٍ مكلّف ( بالغٍ عاقلٍ ) قادرٍ ، و هي من العبادات البدنيّة المحضة التي لا تصحّ فيها النيابة ، فلا يصح أن يؤديها أحدٌ عن أحدٍ في حياته و لا بعد مماته ( بخلاف الحج و الصيام ) .
و قد أجمع من يُعتدّ بإجماعهم على كفر من جحد وجوبها ، و اختلفوا في حكم تاركها مطلقاً ( أي من لا يُصلّي ألبتة ) متكاسلاً أو متهاوناً ، مع إقراره بوجوبها ، فذهب الجمهور ( من الحنفيّة و المالكيّة و الشافعيّة ) إلى أنّه يفسُق و لا يكفر ، و حكموا عليه بالقتل تعزيراً .
و ذهب الحنابلة ( في المشهور ) إلى أنّ تارك الصلاة بالكلّية كافرٌ كفراً أكبرَ مخرجاً من الملّة ، سواءً تركها جحوداً أو تكاسلاً أو تهاوناً ، و حكموا عليه بالقتل حداً لردّته .
و قد أحسن الإمام النووي في عَرض مذاهب الفقهاء في المسألة في قوله ( في شرح صحيح مسلم ) : (‏ و أما تارك الصلاة فإن كان منكرا لوجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين , خارج من ملة الإسلام إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام , و لم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها و جوب الصلاة عليه , و إن كان تركه تكاسلاً مع اعتقاده وجوبها كما هو حال كثير من الناس فقد اختلف العلماء فيه , فذهب مالك و الشافعي رحمهما الله و الجماهير من السلف و الخلف إلى أنه لا يكفر بل يفسق و يستتاب فإن تاب و إلا قتلناه حداً كالزاني المحصن , و لكنه يُقتل بالسيف .
و ذهب جماعة من السلف إلى أنه يكفر و هو مروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، و هو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل رحمه الله ، و به قال عبد الله بن المبارك ، و إسحاق بن راهويه ،و هو وجهٌ لبعض أصحاب الشافعي رضوان الله عليه .
و ذهب أبو حنيفة و جماعة من أهل الكوفة و المزني صاحب الشافعي رحمهما الله أنه لا يكفر , و لا يُقتل , بل يُعزَّر و يُحبس حتى يصلي ) .
قلتُ : و الأدلّة الشرعيّة تعضد الرأي الثاني ( رأي الحنابلة ) و منها :
روى مسلم عن ‏جابر بن عبد الله ‏ رضي الله عنه ، قال : ‏سمعت رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يقول ‏: (‏ إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَ بَيْنَ الشِّرْكِ وَ الْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ ) .
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم : ( ‏و معنى بينه و بين الشرك ترك الصلاة أن الذي يمنع من كفره كونه لم يترك الصلاة , فإذا تركها لم يبق بينه و بين الشرك حائل , بل دخل فيه ) .
و روى الترمذي و النسائي و ابن ماجة و أحمد بإسنادٍ صحيح ‏عن ‏عبد الله بن بريدة ‏‏عن ‏أبيه رضي الله عنه ‏قال ‏: ‏قال رسول الله ‏صلى الله عليه و سلم ‏: ( العهد الذي بيننا و بينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) .
و ينبغي أن لا يُتهاون في شأن الصلاة حتى على القول بعدم كفر تاركها مطلقاً ، لأنّ تركها يُفضي بصاحبه إلى الكفر ، كما قرّره من لم يقل بتكفيره أصلاً ، و قد انتصر لهذا الرأي من المعاصرين محدّث الديار الشاميّة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله ، و ممّا قاله في هذا الموضوع : ( مما لاشك فيه أن التساهل بأداء ركن واحد من هذه الأركان الأربعة العملية مما يعرض فاعل ذلك للوقوع في الكفر ... فيخشى على من تهاون بالصلاة أن يموت على الكفر ، ولكن ليس في هذا الحديث الصحيح ، ولا في غيره ، القطع بتكفير تارك الصلاة ) [ سلسلة الأحاديث الضعيفة و الموضوعة : 1 / 211 ] .
قلتُ : بل ظاهر النصوص يشهد بكفر تارك الصلاة مطلقاً ، و لا فرق في ذلك ( بحسب الظاهر ) بين جاحدٍ و متهاون ،
و قد انتصر شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله للقول بتكفير تارك الصلاة تهاوناً بكلام متقنٍ ينمّ عن فهمٍ محكم ، قال فيه :
( و إذا صير حتى يقتل فهل يقتل كافراً مرتداً , أو فاسقاً كفُساق المسلمين ؟ على قولين مشهورين حُكيا روايتين عن أحمد ... فإن كان مقراً بالصلاة في الباطن , معتقداً لوجوبها يمتنع أن يُُُصر على تركها حتى يُقتل و هو لا يصلي , هذا لا يعرف من بني آدم و عادتهم ; و لهذا لم يقع قط في الإسلام , و لا يعرف أن أحداً يعتقد وجوبها , و يقال له : إن لم تُصلِّّّ و إلا قتلناك , و هو يُصر على تركها مع إقراره بالوجوب , فهذا لم يقع قط في الإسلام .
و متى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل لم يكن في الباطن مقرا بوجوبها , و لا ملتزما بفعلها , و هذا كافر باتفاق المسلمين ... قال عبد الله بن شقيق : كان أصحاب محمد لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة فمن كان مصراً على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط , فهذا لا يكون قط مسلماً مقراً بوجوبها , فإن اعتقاد الوجوب , واعتقاد أن تاركها يستحق القتل هذا داع تام إلى فعلها , و الداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور , فإذا كان قادراً و لم يفعل قط علم أن الداعي في حقه لم يوجد ) [ مجموع الفتاوى : 22 / 48 ] .
قلتُ : و لا يسَعنا أن نخرج في الفتيا عن قول من قال بكفر تارك الصلاة مطلقاً ، حتى و إن كان في ذلك متهاوناً أو متكاسلاً ، لثبوت الأدلة الدالة على كفره ، و قوّة دلالتها على المطلوب .
و يسعنا ما وسع السلف الصالح في فهمها ، و منهم الصحابة الكرام الذين كانوا يرون ترك الصلاة كفراً كما في خبر عبد الله بن شقيق المتقدّم .
هذا ، و الله أعلم و أحكم ، و الحمد لله ربّ العالمين .

كتبه
د . أحمد عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad Najeeb
alhaisam@msn.com