بسم الله الرحمن الرحيم

مسائل في الدراسة الجامعيّة للمرأة

 
السؤال :
أنا طالبة في معهد التعويضات السُنِّية ( صناعة الأسنان ) في جامعة دمشق و مدة الدراسة فيه سنتان ، و قد أنهيتُ العام الأول منهما.
و السؤال هو عن حكم الدراسة في هذا المعهد مع التنويه إلى الأمور التالية :
1 - المعهد مختلط , و خاصة في قسم الدراسة العملية الذي يصل أحياناً إلى 5 – 7 ساعات من العمل و الحركة يومياً و اضطرُّ فيه إلى خلع القفازين .
2 - المواصلات كذلك فيها اختلاط بشكل كبير ومزعج وأقطع يومياً 100 كم لوحدي .
3 - العمل بعد التخرج ليس فيه اختلاط إذ إن المتخرج يعمل في مخبره ، و قد يكون المخبر غرفةً في المنزل ، و قد لا أعمل و أوكل من يعمل في المخبر المفتوح باسمي بناءً على شهادتي .
4 - أنا و لله الحمد ملتزمة بالحجاب الشرعي الكامل مع غطاء الوجه في كل الأوقات و لا أكلِّم أحداً و أحاول قدر المستطاع الالتزام بالحشمة و تجنب الاختلاط مع الشباب .
5 - هذا المعهد مكلف جداً , و قد تم دفع مبالغ كبيرة خلال هذا العام .
6 - أنا ولله الحمد أقوم بنشاط دعوي بين أخواتي الطالبات قدر المستطاع .
و الحال هو أني كرهت هذا المعهد و سئمت ما فيه من الفساد و المضايقات و قررت أن أتركه ، ثم استخرت الله و أخبرت والدي فرفض بشدة ، و غضب غضباً شديداً ، و منعني من ذلك مهدداً إيّاي بالغضب عليّ إلى يوم الدين إن فعلت ، و لا سبيل إلى ذلك بحال من الأحوال ، إذ هو و اثق من ابنته ، ولا يرى في الاختلاط بأساً على الاطلاق ، كما رفض التحويل إلى فرع آخر ، بل هو مصر على هذا الفرع لأن مستقبله جيد .
فهل أنا آثمة إن تابعت الدراسة بعد ما ذكرت من أمور و أهمها موقف والدي ، أم يجب عليّ الصبر حتى أنهي السّـنة الدراسيّة الباقية ، و أستعين بالله إن لم يكن ذلك يغضب ربي مع العلم أني استخرت مرتين قبل التسجيل في بداية العام و تيسرت جميع أموري .
و إن كان الجواب أنه يلزمني الترك إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، فما هو الحل الأنسب ، و الطريقة الأمثل ؟
و ما هو الرد على من يقولون بأننا نعيش في بلد ، الجامعات فيها مختلطة ، فهل تجلس كل البنات في البيت و يتركن الدراسة و الاقتصاد و الوظائف لغير المسلمين ؟
ثم إن الناس اليوم بحاجة إلى رؤية الملتزمين ، و أصحاب الأخلاق في كل الميادين فمن يدعو هؤلاء النساء إلى الله ؟
و هل خروج المرأة إلى هذه الجامعات يعد جهاداً باعتبارها تقاوم الفساد و ترفع من مكانة دينها بثباتها عليه ؟


الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إن هذا السؤال ليس مجرّد استفتاء ، و لكنّه عرض لإحدى القضايا التي عمّت بها البلوى و طمّت في عصرنا الحاضر ، و تباينت آراء الناس علماءَ و عامةً أيّما تبايُن في الحُكم عليها ، و التعامل معها .
و قد اختصرت الأخت السائلة علينا طريق الإجابة بوَضعها النقاط على الحروف ، و تحديد مواطن الخلل الباعثةِ على التباس الحكم في قضيّةٍ هامّةٍ عامّةٍ كهذه ، و إليها و إلى من يطّلع عليه من المسلمين الجواب مرتباً في نقاط :
النقطة الأولى : في حكم طلب العلم الدنيوي ، كالمهن التي فيها صلاح الناس في معاشهم ، و تيسير أمور حياتهم ، و منه الطب و الهندسة و الاقتصاد و ما إلى ذلك .
و المعروف من كلام أهل العلم القُدامى و المُعاصرين أنّ تحصيل هذه العلوم يدور بين الإباحة و الاستحباب و فرضِ الكفاية ، أي أنّه إذا قامَ به البعض سقَط الإثم عن الباقين ، و إن لم يقوموا به أثموا جميعاً .
و مثال فرض الكفاية ما يحتاجه المسلمون من آلة الحرب و وسائله ، التي تحمي ديار الإسلام ، و تصون دماء المسلمين و أموالهم و أعراضهم ، و تردّ المعتدين و تدفع الصائلين ، فإذا بلغَ الأمر حدّ الكفاية بقيام من يقدر عليه ، سقط التكليف بطَلبه عن باقي المسلمين .
و يسقط الإثم عن الأمّة إذا حصلت على المطلوب و لو بطريق الشراء أو الإجارة و نحوهما ، إذ إن التاريخ حافلٌ بالأخبار الدالّة على استعمال المسلمين أدوات الحرب المصنّعة بأيدي غير المسلمين كالسيوف الهنديّة ( الشهيرة ) و غيرها .
و فيما يتعلّق بمهنّة الطب و ما يُلحق بها من علوم الصيدلة و التمريض و المخابر ، تتعدّد الأحكام الشرعيّة بحسب حاجة المسلمين إلى هذه العلوم :
فقد تكون دراستها مباحةً كالطب النفسي الذي لا يُعارضُ كتاباً و لا سنّة .
و قد تكونُ فَرضاً على الكفاية على النساء دون الرجال كالاختصاص في مراض النساء و الولادة و ما إلى ذلك ، إذ إنّ في عَدَم وجود الطبيبة المسلمة الثقة في دينها و خُلُقها ، المتمكنة من مهنتها و اختصاصها ، مفاسد كثيرة ، منها اضطرار المسلمات لكشف ما لا يحلّ كشفه من أجسامهنّ أمام غير المسلمين من الأطباء رجالاً و نساءً ، و لا أمام الطبيب المسلم غير المحرَم .
و إذا عُذرت المريضة المسلمة في طلب العلاج على يد هؤلاء بحكم الاضطرار ، فإنّ هذا لا يَعذُُُر القادرات على سدّ هذا الثغر لقعودهنّ عنه من غير عُذر .
و قد تكون مندوبةً يثاب عليها من طلبها احتساباً كفروع عِلمِ الطب الذي لا مفسدة في أن يلتمس المريض فيها علاجاً عند طبيبٍ غير مسلم إذا كان المريض رجلاً ، و طبيبة غير مسلمة للأنثى و أمثلته كثيرةٌ منها طبُّ الأنف و الأذن و الحنجرة و ما إليها .
و عليه فما احتاجه المسلمون من علوم الطب ، لا بأس أن تُقدِم المرأة على دراسته ، إذا صلُحَت فيه النيّة ، بل قد يتعيّن عليها ذلك إذا لم يقم من بنات جِنسِها من يسد الحاجة و يؤدي الواجب الكِفائي .
و إن كان في ذلك بعض المفاسد قوبلت بما يترتّب عليه من المصالح ، و روعي الأرجح ، عملاً بالقاعدة الفقهيّة ( يُتَحمّل الضرر الخاص لدَفع ضرر عام ) ، فإذا اقتَصرت مفسدة الدراسة في الجامعة على خلع القفّازَين ( مع الحفاظ على غطاء الوجه عند من يذهب إلى وُجوبه ) ، و إمكانيّة اجتناب الجلوس في مقاعد مشتركة تجمع الذكور و الإناث جنباً إلى جنب ، و عدم الخلوة بين الجنسين ، بل و ما ذَكرته السائلة من عدم محادثة الطالبات للطلاّب أصلاً أو العكس ، مع قيامها بالدعوة إلى الله تعالى بين الطالبات ؛ فإن المفسدة المترتّبة على دراستها أقلّ بكثير من المفسدة المترتّبة على قصد مئات الآلاف من المسلمات عيادات الأطبّاء غير المحارم ، أو الطبيبات غير المسلمات أو مخابر تصنيع الأسنان و العلاج الفيزيائي ( و منه التدليك ) طلباً للعلاج .
و من دلائل النبوّة الواضحة الجليّة أنه في بَلَد السائلة – رغم ما شاع من صنوف الفتن و فنون الفساد – يحقّ للطالبة في الجامعات الالتزام بالزيّ الشرعيّ كاملاً بما فيه غطاء الوجه و الكفّين ، و قد دَرَستُ و درَّستُ في دمشق و لا تزال في ذاكرتي صور عشرات الفتيات يجلسن في قاعات الدراسة منزويات في الصفوف المتأخّرة بعيداً عن الذكور ، متلفّعاتٍ بالسواد ، لا تُرى منهنّ الوجوه و لا الكفوف ، و أرجو أن يكون الحال على ما كان عليه ، أو خيرٍ منه في يومنا هذا .
و لم يكن هذا في كلّية الشريعة خاصّةً ، بل فيها و في غَيرها ، فقد درَسَتْ إحدى أخوَاتي و تخرّجت في كليّة الطب بجامعة حَلَب ، و لم تُُُضطَرّ قطّ إلى خَلعِ نقابها ، أو الاختلاط المحرّم بغير بنات جنسها خلال ستِّ سنواتٍ كاملةٍ متتاليةٍ ، و هذا من توفيق الله و تثبيته لمن يشاء من عباده .
روى أحمد و الترمذي بإسناد قال عنه : ( حسن صحيح ) عَنْ قُرَّةَ المزني رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «‏ إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلاَ خَيْرَ فِيكُمْ »‏ .‏
فإذا أمكنكِ تحاشي الوقوع في المحظورات الشرعيّة في الدراسة فأطيعي والدك و أتمّي دراستك ، أمّا إن تعذّر عليك الالتزام بالشرع الحنيف ، و لم تكن دراستك متعيّنة عليكِ ( بحسب الاختصاص و الحاجة إليه كما تقدّم ) ، فاعتذري لأبيك بالتي هي أحسن ، و تذرّعي إليه بالأدب و البرّ و الإحسان ، علّ الله يشرح صدرَه ؛ فيدعك و شأنك ، و يأذن لك في تغيير الاختصاص أو الانصراف عن الدراسة إلى ما هو خيرٌ منها .
النقطة الثانية : الاختلاط على صورته المعهودة في عصرنا الحاضر مفسدةٌ بالغة الخطورة على الدين و الخُلُق ، و الكلام عن الاختلاط بشكلٍ عام يحتاج إلى تفصيل :
فإذا أريد بالاختلاط اجتماع الرجال و النساء في مكان ما ، من غير تعمّد كالحال في الأسواق و الطرقات ، إذ يسعى الجميع في حاجته ذهاباً و جيئةً ، و يبيعون و يشترون ، فلا بأس في هذا ما لم يتلبّس من وَقع فيه بمحرّم خارجٍ عنه ، و ليست هذه الصورة للاختلاط من الصور المحرّمة في شيء ، بل هو مما تعمّ به البلوى ، و يضطر إليه الناس لمعاشهم في كلّ زمانٍ و مكان .
و من الصوَر التي لا حَرجَ فيها اجتماع الرجال و النساء في المسجد الواحد لأداء فريضة أو عبادة ، كما هو الحال منذ صدْرِ الإسلام و حتى يومنا هذا ، في المساجد الثلاثة التي تُشدّ إليها الرحال و غيرِها ، و قد كانت النساء يشهدن الصلاة مع النبيّ صلى الله عليه و سلّم في المسجد ، و لم يَنه عن ذلك ، كما لم يأمر بضرب حاجزٍ بين صفوف الرجال و صفوف النساء فقد روى الشيخان و أبو داود و مالك و أحمد ، و اللفظ للبخاري عَنِ عبد الله بن عُمَرَ قَالَ : كَانَتِ امْرَأَةٌ لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلاَةَ الصُّبْحِ وَ الْعِشَاءِ فِى الْجَمَاعَةِ فِى الْمَسْجِدِ ،‏ فَقِيلَ لَهَا لِمَ تَخْرُجِينَ وَ قَدْ تَعْلَمِينَ أَنَّ عُمَرَ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَ يَغَارُ ؟ قَالَتْ : وَ مَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْهَانِى ؟ قَالَ ابن عمر : يَمْنَعُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «‏ لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ »‏ .‏
غير أنّهن كنّ يُصلّين في صفوفٍ خاصةٍ خلف صفوف الرجال امتثالاً لهديه صلى الله عليه و سلّم ، في قوله : «‏ خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا »‏ رواه مسلم و أصحاب السنن و أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه .
أمّا انفراد الرجل بالمرأة ، بدون محرم ؛ فهو الخلوة المحرّمة ، التي حذّر النبيّ صلّى الله عليه و سلّم منها فيما رواه أحمد و الترمذي بإسناد قال عنه : ( حسنٌ صحيح ) عَن عُمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : «‏ أَلاَ لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ »‏ .
و من الصور المحرّمة أيضاً اجتماع رجل بامرأة ، و لو كان ذلك في مكانٍ عامٍ إذا ترتّبت عليه ريبةٌٌ أو سوء ظنّ فيه ، ما لم يُزِل اللبس الذي قد يقَع في نفس من رآه ظنّاً أو يقينا ، لما رواه الشيخان و أبو داود و ابن ماجة و أحمد عَنْ صَفِيَّةَ ابْنَةِ حُيَىٍّ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفاً ،‏ فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلاً فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ ،‏ فَانْقَلَبْتُ فَقَامَ مَعِى لِيَقْلِبَنِى -‏ أي ليعيدها إلى البيت - فَمَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ ،‏ فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أَسْرَعَا ،‏ فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم : «‏ عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ »‏ .‏ فَقَالاَ سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : «‏ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ ،‏ وَ إِنِّى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِى قُلُوبِكُمَا سُوءاً »‏ ، أَوْ قَالَ : «‏ شَيْئاً » .‏
و يحرم كذلك ما شاع من الاختلاط في هذا الزمان عند الأضرحة و ما يُزعمُ أنّها مقامات أولياء ، و في الاحتفالات و المواسم المبتدَعة كالموالد ، حيث يختلط الرجال بالنساء في هيئات بالغةِ الفساد ، و ظاهرةِ الانحراف ، و هذا أولى بالذمّ ، بل هو مما تبتلى به الأمّة في آخر الزمان لقوله صلّى الله عليه و سلّم : ( لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدونها في الجاهلية ) رواه ابن أبي عاصم في ( السنّة ) و الطبراني في ( الصغير ) بإسنادٍ حَسَن ، و ذو الخلصة صنَمٌ بتبالة .
و معظم ما يقع في الجامعات و المدارس ، فضلاً عمّا في النوادي و المحافل العامّة وحتّى وسائل النقل لغير المضطرّ هو من صور الاختلاط المحرّم ، المفضي إلى الرذائل و الفواحش ، لذلك نذهب إلى القول بتحريمه ، و نحذّر منه أسوةً بما جرى عليه معظم العلماء العاملين ، الذين عرَفوا حقيقته ، و سبروا غُواره ، و وقفوا على مفاسده ، و سدّاً للذرائع ، و قطعاً لدابر الرذيلة و الفاحشة ، و ما يُفضي إليهما .
النقطة الثالثة : ذَكرت الأخت السائلة أنّها تُضطرُّ للانتقال قرابة المئة كيلو متر يومياً في وسائل النقل العامّة ، و هذا من السفر الذي لا يحلّ للمرأة إلاّ مع ذي محرَم ، فقد روى الشيخان و أصحاب السنن إلا النسائي و أحمد عَنِ عبد الله بنِ عُمَرَ -‏ رضي الله عنهما -‏ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : «‏ لاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ »‏ .
و روى البخاري و الترمذي و أحمد عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ رضي الله عنه أنّ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : «‏ لاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ إِلاَّ وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ »‏ .
و قد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنّه يحرم عليها الخروج بغير محرم في كل سفر طويلاً كان أو قصيراً .
و أباح الحنفيّة لها الخروج إلى ما دون مسافة القصر بغير محرم .
و على كلا القولين فإنّه يحرم على المرأة أن تسافر أكثر من اثنين و ثمانين كيلو متراً ( عند من يرى التحديد بالمسافة ) و أن تشرع فيما يعتبر سفراً في عُرف الناس عادةً ( باعتبار العادةِ محكّمةً كما في القاعدة الفقهيّة ) .
و من فرّقَ من المعاصرين بين سَفَرٍ و سفر ، و ذهبَ إلى عدم اشتراط المحرَم في السفر بوسائل النقل المعاصرة لما يكتنفُها من الأمان ، محجوج بعموم الدليل الوارد في التحريم ، و لا حجّة في قول أحدٍ ما لم يُقِم عليه دليلاً من الكتاب أو السنّة .
قال الإمام الشافعي رحمه الله : ( لم أسمع أحداً نسبه الناس أو نسب نفسه إلى عِلمٍ يُخالف في أن الله فرض اتباع أمر رسول الله  و التسليم لحكمه ، و أن الله عزّ و جل لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه ، و أنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله  ، و أنّ ما سواهما تبع لهما ، و أن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله  واحد ) [ الأم : 7 / 273 ] .
النقطة الرابعة : دأبَ بعض الناس في هذا الزمان ، و خاصّة المختصّين في العلوم الصحيّة كالصيادلة و الممرّضين و فنّيي المخابر ، و بعض الفروع النظريّة كالقانون على تأجير شهاداتهم إلى من يستثمرها ، و يؤدّي إليهم مبلغاً مقطوعاً أو نسبةً من دَخله لقاءَ ذلك ، و من أمثلة ذلك أنْ يقوم الصيدلي بعد تخرّجه باستخراج ترخيص لافتتاح صيدليّةٍ خاصّة و العمل فيها ، أو المخبَريّ باستخراج ترخيص لتأسيس مخبرٍ للتحاليل الطبّيّة ، فإذا تمّ له الأمر اعتزل المهنة و خوّل شخصاً غيرَ مختصٍ بالعمل في صيدليّته أو مخبره ، و كأنّ الأمر لا يعدو أن يكون استثماراً ، و إن كان فيه توسيد أمرٍ إلى غير أهله .
روى البخاري في صحيحه و أبو داود في سننه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنّ أعرابياً سأل النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم : مَتَى السَّاعَةُ ؟ فقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : «‏ إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ »‏ .‏ قَالَ : كَيْفَ إِضَاعَتُهَا ؟ قَالَ : «‏ إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ »‏ .‏
و في تأجير الشهادة إلى غير الأكفاء من تضييع الأمانة ، و التفريط في أدائها ما لا يخفى ، و هو مخالفٌ لقوله تعالى : ( و الذين هم لأماناتهم و عهدهم راعون ) [ المعارج : 32 ] ، و قوله عليه الصلاة و السلام : «‏ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ »‏ الذي رواه البخاري معلّقاً و أبو داود عن أبي هريرة و الترمذي عن عَوْفٍ الْمُزَنِىُّ ، و قال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .‏
كما تترتّب على تأجير الشهادات مفاسدُ كثيرةٌ قد تؤدّي إلى الإضرار بالمريض ، و تعريض النفوس للخَطَر .
و مع أنّ الشرع لم يشترِط – من حيث المبدأ – الحصول على شهادةٍ ما لممارسة مهنة مباحةٍ أصلاً ، لا يمكننا تبرير التجاوزات في هذا المجال الخطير بعد أن وَقَفنا على حالاتٍ كثيرةٍ من الإفساد الذي تسببت فيه ، بل نذهَب إلى تحريمه لما تقدّم من أدلّة ، و سدّاً للذرائع ، و بالله التوفيق .
و بالجملة فإنّ دراسة الفتاة المسلمة في الجامعات المعاصرة محفوفةٌ بالخَطَر ، و القول بمشروعيّتها يختلف من حال إلى حال ، فإذا كانت الحاجة إلى الاختصاص الدراسي الذي أقدَمَت عليه الفتاة ماسّة ، و لا يوجد في بنات جنسها من المسلمات من تُسدّ بوجودهن الحاجة ، و تسقط فرضيّة الكفاية ، و غلبَ على ظنّها عدم وجود محظورات شرعيّة في دراستها ، أو إمكانيّة التغلّب على ما وُجد منها ، جاز لها ذلك ، و قد تكون أهلاً للثواب بمقدار مجاهدتها لنفسها ، و إشاعتها الخير و الدعوة إلى الله في محيطها ، إن أقدَمت على ذلك احتساباً ، و إلا فلا .
و الله الموفّق ، و صلى الله و سلّم على نبيّه محمّد و آله و صحبه أجمعين ، و الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات .

كتبه
د . أحمد عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad Najeeb
alhaisam@msn.com