بسم الله الرحمن الرحيم

نقض دعاوى من استدل بيُسر الشريعة
على التيسير في الفتاوى
تأليف
الدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب الشريف
الطبعة الأولى
1423 للهجرة – 2002 للميلاد
جميع حقوق النشر و التأليف محفوظة للمؤلف

للحصول على نسخه من الكتاب


تقديم

الحمد لله و كفى و صلاةً و سلاماً على عباده الذين اصطفى ، و بعد :
ففي أوج انتشار منهج التيسير في الإفتاء ، عمَد بعض الميسِّرين إلى تكلّف إيجاد مرجعيّة شرعيّة ، و تأصيل منهجيّة فقهيّة فجّةٍ ، تعمَد إلى ما في نصوص الوحيين ، و كلام السابقين ، من أدلّة على أنّ الدين يُسرٌ لا مشقّةَ فيه ، و تتذرّع بها لتبرير منهجها في إختيار أيسر المذاهب ، و الإفراط في التيسير في الفتاوى المعاصرة ، إلى حدٍّ يبلغ حافّة الإفراط ، و يخشى على من وَقَعَ في أن يصير إلى هاوية الانحلال من التكاليف أو بعضها ، أو القول على الله بغير علم ، بتقديمه ما يستحسنه بين يدي الله و رسوله .
و قد تأمّلت أدلّة القوم النقليّة ، فإذا هي آيات مُحكمات ، و أخبار صحيحة ثابتة ، غير أنّي لم أجد فيها دليلاً على ما ذهبوا إليه ، بل بعضها يدلّ على خلاف مذهبهم ، و رأيت من المناسب بيان ما بدا لي في هذا الباب على عُجالةٍ ، في هذه المقالة الوجيزة ، من خلال مقصِدَين و خاتمة .


المقصد الأوّل
نصوص التيسير من الكتاب و السنّة

استدل دعاةُ التيسير بعموم النصوص الدالّة على أنّ التيسير و رَفع المشقّة مقصد من مقاصَد التشريع الإسلامي ، كقوله تعالى :
 يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ  [ البقرة : 185 ] .
و غفلوا عن الآية التي قَبلَها ، و فيها رَفعُ رُخصة الفطر في رَمضان مع الكفّارة لمن قدِرَ على الصوم ، و هو ما ثبتَ بقوله تعالى في الآية السابقة لها :  وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ  [ البقرة : 184 ] .
رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ سَلَمَة بْن الأَكْوَع أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ  وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ  ، كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِر و يَفْتَدِي حَتَّى نَزَلَتْ الآيَة الَّتِي بَعْدهَا فَنَسَخَتْهَا.
قلتُ : و هذا من قبيل النسخ بالأشد ، و هو من التشديد و ليس من التيسير ، في شيءٍ ، فتأمّل !
و مثل ذلك استدلالهم بقوله تعالى :  وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ  [ الحج : 78 ] ، متغافلين عن صدر الآية ذاتها ، و هو قوله تعالى :  وَ جَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ  مع أنّه لا مشقّة تفوق مشقّة الجهاد و التكليف به ، فبقي أن يُحمل رَفع الحرج على ما رُفِعَ بنصّ الشارع الحكيم سبحانه ، لا بآراء المُيَسّرين .
و من هذا القبيل ما رواه الشيخان في صحيحيهما ، و أبو داود في سننه , و أحمد في مسنده ، عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضى الله عنها ، قَالَتْ : ( مَا خُيِّرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا ،‏ مَا لَمْ يَأْثَمْ ،‏ فَإِذَا كَانَ الإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ ) .
و ما رواه البخاري في كتاب العلم من صحيحه ، و مسلم في الجهاد و السير عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه , عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : «‏ يَسِّرُوا و لاَ تُعَسِّرُوا ،‏ و بَشِّرُوا و لاَ تُنَفِّرُوا »‏ .‏
و في روايةٍ للبخاري في كتاب الأدب : «‏ يَسِّرُوا و لاَ تُعَسِّرُوا ،‏ و سَكِّنُوا و لاَ تُنَفِّرُوا » .
و روى مسلم و أبو داود عَنْ أَبِى مُوسَى رضي الله عنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ : «‏ بَشِّرُوا و لاَ تُنَفِّرُوا و يَسِّرُوا و لاَ تُعَسِّرُوا »‏ .‏
قلتُ : جميع ما تقدّم من نصوص الوحيَين ، و كثيرٌ غيره ممّا يقرّر قيام الشريعة الغرّاء على اليُسر و نفي الضرر ، و رفع الحَرَج ، فهِمَه الميسّرون على غير وجهه ، و حمّلوه ما لا يحتمل ، متعنّتين في توجيهه لنُصرة شُبهَتهم القاضيةَ بجَعل التيسير في الفتوى منهاجاً رَشَداً ، و فيما يلي نقضُ غَزلهم ، و كشف شبههم إن شاء الله :
أوّلاً : ثمّة فرقٌ لغويٌ بين اليُسر و التيسير ، فاليُسر صفةٌ لازمةٌ للشريعة الإسلاميّة ، و مقصدٌ من مقاصدها التشريعيّة جاء به الكتاب و السنّة ، و أنزله النبيّ صلى الله عليه وسلم و السلفُ الصالحُ منزلَتَه ، أمّا التيسير فهو من فِعل البشر ، و يعني جَعلَ ما ليس بميسَّرٍ في الأصل يسيراً ، و هذا مَوطِنُ الخَلل .
ثانياً : إن اختيار النبيّ صلى الله عليه وسلم للأيسر في كلّ أمرين خُيِّرَ بينهما ، كما في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم فيه أربع نكات لطيفةٍ :
النكتة الأولى : أنَّ الاختيار واقع منه صلى الله عليه وسلم فيما خُيّر فيه ، و ليس في كلّ ما أوحيَ إليه أو كُلّف به ، هو أو أمّته ، و مثال ذلك الاختلاف في صيَغ الأذان ، و تكبيرات العيد ، و ما إليه حيث لا يعيبُ من أخَذ بهذا على من أخذَ بذاك من العلماء ، لثبوت الروايات بالأمرين كليهما .
و الثانيّة : تقييد التخيير بما لم يكُن إثماً ، و لا شكّ أنّ العدول عن الراجح إلى المرجوح ، أو تعطيل ( و من باب أولى رد ) ما ثبت من الأدلّة الشرعيّة إثمٌ يُخشى على صاحبه من الضلال ، فلا وَجه لاعتباره من التيسير المشروع في شيء .
و الثالثةُ : أنّ التخيير المذكور في الحديث يُحمل على أمور الدنيا لا الدِّين ، و هذا ما فهمه أهل العِلم قَبلَنا ، و قدّ أمِرنا بالردّ إليهم ، و منهم الحافظ ابن حجر ، حيث قال رحمه الله في الفتح : ( قولُه بين أمرين : أي من أمور الدنيا. لأن أمور الدين لا إثم فيها ... و وقوع التخيير بين ما فيه إثم و ما لا إثم فيه من قِبَل المخلوقين واضح ، و أمَّا من قبل الله ففيه إشكال ؛ لأن التخيير إنما يكون بين جائِزَين ) [ فتح الباري : 6 / 713 ] .
و النكتة الرابعة و الأخيرة : أنّ هذا الخبر ما لم يُقيّد بما سبق سيكون معارضاً باختيار النبيّ صلى الله عليه وسلم الأشقَّ على نفسه ، كقيامه الليل حتّى تتشقق قدَماه مع أنّ الله تعالى قد غَفَر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر . قال الحافظ في الفتح : ( لكن إذا حملناه على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى مع الاشتغال به أن لا يتفرغ للعبادة مثلاً ، و بين أن لا يُؤتِيَه من الدنيا إلا الكفاف ، و إن كانت السعة أسهل منه ، و الإثم على هذا أمر نسبي ، لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له ) [ فتح الباري : 6 / 713 ].
ثالثاً : لا تكليف بدون مشقّة ، و إن كانت المشقّة الحاصلة بكلِّ تكليفٍ بحَسَبه ، و هي متفاوتة ، فإذا جاز لنا تخيّر أيسر المذاهب دفعاً لكلّ مشقّةٍ ، ترتّبَ على ذلك إسقاط كثيرٍ من التكاليف الشرعيّة ...
قال الشاطبي رحمه الله : ( المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً ) [ الموافقات : 2 / 128 ] .
و قال الإمام شمس الدين ابن القيّم رحمه الله : ( لو جاز لكل مشغول و كل مشقوق عليه الترخيص ضاع الواجب و اضمحل بالكلية ) [ إعلام الموقعين 2 / 130 ].
و قال أيضاً في مَعرض كلامه عن رُخَص السفَر : ( إنَّ المشقة قد عُلِّقَ بها من التخفيف ما يناسبها ، فإن كانت مشقة مرض و ألم يُضِرُّ به جاز معها الفطر و الصلاة قاعداً أو على جنب ، و ذلك نظير قصر العدد ، و إن كانت مشقّةَ تعبٍ فمصالح الدنيا و الآخرة منوطةٌ بالتعب ، و لا راحة لمن لا تعب له بل على قدر التعب تكون الراحة فتناسبت الشريعة في أحكامها و مصالحها بحمد الله و مَنِّه ) [ إعلام الموقعين 2 / 131 ] .
قلتُ : فمن آثر الراحة و الدعةَ في مقام الجدّ و النصَب ، فقد خالف الصواب ، و غَفَل عمّا أريد منه ، و ما أنيط به ، و لو كان في البعد عن الجدّ و الجَهد في الطاعة بدون مرخّصٍ شرعيٍ مندوحةٌٌٌ لغير ذوي الأعذار ، لما قال تعالى لخير خلقه ، و أحبّهم إليه : ( فإِذا فَرَغْتَ فانْصَبْ ) [ الانشراح : 7 ] .
رابعاً : ما ورد في التحذير و التنفير من التشديد و التعسير و المشاقّة و التنطّع ، و التعمّق - و ما إلى ذلك - على النفس و الغير ، لا يدلُّ على التخيير ( أو التخيُّر ) في الأحكام الشرعيّة ، لدلالة النصوص على التكليف بالأشدّ في مواضع كثيرة ، و لأنّ النسخ بالأشد ممّا جاءت به الشريعة بالاتفاق ، فضلاً عن حمل جمهور أهل العلم لنصوص النهي عن التنطّع و نحوه على ما كان فيه مجاوزة للمشروع ، كالوصال في الصيام ، فهو ممّا نُهي عنه ، و إن كان مقدوراً عليه بدون مشقّة ، بخلاف الصوم المشروع فلا يسقط عمّن وجَبَ عليه حتى و إن ثبتت مشقّته ، ما دام مقدوراً عليه ، و قد تقدّم ذكر بعض أقوال أهل العلم في أنّ الأصل في التكليف ، أنّه قائمٌ على المشقّة المقدور عليها .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله : ( التشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ، و لا مستحب ، بمنزلة الواجب و المستحب في العبادات ، و تارةً باتخاذ ما ليس بمُحرَّم ، و لا مكروه ، بمنزلة المحرم و المكروه في الطيبات ، و عُلِّل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى ، شَدَّد الله عليهم لذلك ، حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة ، و في هذا تنبيه على كراهة النبي صلى الله عليه وسلم لِمِثْل ما عليه النصارى من الرهبانية المبتدعة ، و إن كان كثير من عُبَّادِنا قد وقعوا في بعض ذلك ، متأولين معذورين ، أو غير متأولين و لا معذورين ) [ اقتضاء الصراط : 1/103 ] .
و قال ابن القيّم رحمه الله : ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين ، و ذلك بالزيادة على المشروع ، و أخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه ؛ إما بالقدر ، و إمَّا بالشَرْع ؛ فالتشديد بالشرع كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل ، فيلزمه الوفاء به ، و بالقدر كفعل أهل الوسواس ، فإنهم شدَّدوا على أنفسهم ، فشُدِّدَ عليهم القدر ، حتى استحكم ذلك ، و صار صفةً لازمة لهم ) [ إغاثة اللهفان : 1/132 ] .
و لا يقال : إنّ أحكام الشريعة تتدرّجُ من الأشدّ إلى الأيسَر ، و لا من الأيسر إلى الأشد ، باضطراد ، لأنّها اشتملت على الأمرين معاً ، و هذه المسألة مبسوطة في مباحث النسخ في كتب الأصول ، و الأمثلة عليها كثيرة من الكتاب و السنّة ، و من استقرأها وقفَ على حقيقةٍ مفادها أنّ التدرّج من الأيسر إلى الأشدّ هو الغالب في النَسخ ، و هو ما يصلحُ دليلاً على نقيض ما ذهَب إليه دعاة التيسير ، و مؤصّلوه في هذا الزمان .
لقد جاء الشرع بالتشديد بعد الترخيص في مواضع منها ما تقدّم ذِكره من إيجاب الصيام على كلّ مكلّّف بعد أن كان على التخيير في حق من يطيقه .
و نحو ذلك ما جاء في تحريم الخمر من التدرّج من الأيسر إلى الأشد ، حيث كان مباحاً على الأصل ، ثمّ نزلت الآية لتفيد كراهته بالإشارة على رُبُوِّ إثمه على نفعه ، ثمَّ حرّم أثناء الصلاة خاصّة ، ثمّ نزل تحريمه في الكتاب ، و حدُّ شاربه في السنّة .
و كذلك الحال في تشديد حدّ الزنا من الإيذاء باللسان و اليد ، إلى حبس الزواني في البيوت حتى يأتيهن الموت أو يجعل الله لهنّ سبيلاً ، ثمّ الجلد للبكر ( و التغريب في بعض المذاهب ) ، و الرجم للمحصن .
و نحوه ما كان من النهي عن الجهاد في أوّل الأمر ، ثمّ الإذن فيه ، ثم إيجابه على غير ذوي الأعذار بعد الهجرة .
و الأمثلة غير ما ذكرنا على أن الشرع الحنيف جاء بالتدرّج في التشريع من الأيسر إلى الأشدّ كثيرة ، و لو أردنا تتبُّعَها ، وذِكرَ أدلّتها و ما يتفرّع عنها من مسائل و أحكام ، لطال بنا المقام ، قبل أن نصير إلى التمام (1) .
و هذا يدلّ على نقيض ما تذرّع به الميسِّرون ، يسَّر الله لنا و لهم سُبُلَ الهدى ، و وقانا مضلات الهوى و موارد الردى .
فإذا أضيف إليه ما قرّرناه آنِفاً ، من بُطلان استدلالهم بنصوص الوحيين على الجنوح إلى التيسير على وجه التخيير ، ظهر لنا الحق الصريح ، و هو إغلاق باب الاجتهاد في مورد النص الصحيح ، و وجوب الردّ إلى الله تعالى و رسوله على وجه التسليم و القبول ، و الله أعلَم و أحكَم .


المقصِِِد الثاني
أقوال السلف في اختيار أيسَر المذاهب

تذرّع دعاة التيسير في العصر الحديث بما روي عن السلف و الأئمة المتّبعين بإحسان ، من استحباب الأخذ بالرُخص .
و من ذلك ، قول قتادة رحمه الله : ( ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم ) [ انظره في : تحفة المولود ، ص : 8 ] .
و قول سفيان الثوري رحمه الله : ( إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة , فأما التشديد فيُحسنه كل أحد ) [ آداب الفتوى للنووي ، ص : 37 ] .
و قول شيخ الإسلام ابن تيميّة : ( إذا فعل المؤمن ما أُبيح له قاصداً العدول عن الحرام لحاجته إليه فإنّه يثاب على ذلك ) [ مجموع الفتاوى : 7 / 48 ] .
و قول ابن القيّم : ( الرخص في العبادات أفضل من الشدائد ) [ شرح العمدة : 2 / 541 ] .
و قول الكمال بن الهمّام في التحرير : ( إنّ المقلّد له أن يقلّد من يشاء ، و إن أخذ العاميّ في كلّ مسألة بقول مجتهد أخفّ عليه ، لا أدري ما يمنعه من النقل أو العقل .
و كون الإنسان يتتبّع ما هو الأخفّ عليه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد ، ما علمت من الشرع ذمّه عليه ، و كان صلى الله عليه وسلّم يحبّ ما خفّف عن أمّته ) .
و قول الشاطبي : ( المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور ، فلا يذهب بهم مذهب الشدة ، و لا يميل إلى طرف الانحلال ، و الدليل على صحة هذا أنَّه الصراط المستقيم ، الذي جاءت به الشريعة ، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف ، الحملُ على التوسط من غير إفراطٍ و لا تفريطٍ ، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع ، و لذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين ) [ الموافقات : 4 / 285 ] .
إلى غير ذلك ممّا وقفوا عليه فاحتجّوا به ، أو غاب عنهم فأغفلوه .
و لو تأمّلنا ما أوردناه ( و لا أعلَم لهم استدلالاً بغيره من أقوال الأئمّة ) لما رأينا فيه دليلاً على التيسير الذي يُدندنُ حَوله المعاصرون ، فقتادةُ يدعوا إلى الترخّص حيث شرع الله الرخصة ، فيقول : ( ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم ) ( ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم ) ( ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم ) ، و لا يقول : رخِّصوا باستحسانكم ، أو لمجرّد التخفيف عن العباد أو مسايرتهم .
و ابن تيميّة يذكر الاستغناء بالحلال عن الحرام ، و ليس الإفتاء بعدَم حُرمةِ الحرَام أصلاً ، أو اختيار قول من يعدل عن التحريم إلى التحليل أو مجرّد الكراهة ، و إن ضَعُفَت حُجّته ، و وَهت شُبهته .
أمّا ابن القيّم فكلامه في الرخص في العبادات ، و هذا لا خلاف فيه ، خلافاً لدُعاة التيسير الذين وقعوا في تحليل الحرام ، و نفي الكراهة عن المكروه ، و شتّان ما بين المذهبين .
و ما يُروى عن سفيان رَحمه الله لا يؤخذ منه الترخيص بإسقاط الواجب ، أو تحليل المحرّم ، و لكنّه موجّه إلى ما ينبغي أن يفتيَ به العالم من وَقع في حرَج متيقّن ليعينه على القيام بما وَجَبَ عليه ، لا ليُسقِطه عنه ، و ذلك كثيراً ما يَقَع في باب الكفّارات ، و أداء النذور و نحوها .
و ما روي عن ابن عيينة ، قال به غيره ، و لكنّهم تحوّطوا في ضبط صوَره بالتمثيل له .
قال النووي : ( و أما من صحَّ قصدُه , فاحتَسَبَ في طلب حيلةٍ لا شُبهةَ فيها , لتخليصٍ من ورطة يمينٍ و نحوها , فذلك حسن جميل ، و عليه يُحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا , كقول سفيان : إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة , فأما التشديد فيُحسنه كل أحد ) [ آداب الفتوى للنووي ، ص : 37 ] .
و ننبّه هنا إلى أنّ ما رويَ عن السلف الصالح ، في الحث على التمسّك بالعزائم ، و التحذير من الترخّص المجرّد عن الدليل ، أضعاف ما روي عنهم في التيسير و الترخيص ، و العدل أن يُجمَع بين أقوالهم ، لا أن يُسقَط بعضها ، أو يُضرَبَ بعضُها ببَعضٍ .
و ربّما اتّضحت الصورة أكثر إذا قرّبناها بالتمثيل لما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين ، فإذا رَجَعنا إلى سيَرِهِم وقفنا على معالم منهجهم في التشديد و التيسير على النفس و الغير ، و من أبرز تلك المعالم :
أوّلاً : تشديد العالم على نفسه أكثر ممّا يشدد على غيره .
و لهذا المَعلَم ما يشهد له من السنّة ، حيث أرشَد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه معاذ بنَ جبل رضي الله عنه ، حين أمرَه بالإيجاز إذا أمَّ الناسَ في الصلاة ، و يقتضي هذا الترخيص له في الإطالة إذا صلى فذاً ، كما في الصحيحين و غيرهما .
ثانياً : عُرِف عن السلف الصالح ، من الصحابةِ الكرام و من بَعدَهُم التشديد على الناس فيما تساهلوا فيه ، و هذا خلاف ما عليه ميسِّرة العصر ، من التيسير فيما كثُر وقوع الناس فيه .
و من ذلك قول عمر الفاروق رضي الله عنه : ( فلو أمضيناه عليهم ) حينما حكمَ بإيقاع طلاق المجلس ثلاثاً ، و أمضاه على الناس ، لأنّهم استعجلوا بعد أن كانت لهم فيه أناة .
و كذلك تضمين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه للصنّاع ، بعد أن فسدت الذمم و تغيرت النفوس .
ألا ترى أنّ عمرَ و عليَّ رضي الله عنهما قد بالغا في التشديد في هاتين المسألتين ، استحساناً ، رغم وجود ما يراه الميسِّرون المعاصرون مقتضياً للتيسير ، و مستلزماً للتخفيف مراعاةً ظروف المجتمع ، و رفعاً للحَرَج عن الناس .
ثالثاً : أنّ من السلف من كان يفتي بالفتوى ، أو يقضي بالقضاء ، ثمّ يرجع عنه إذا بلغه ما هو أقوى منه دليلاً و أقوَم سبيلاً ، إذ إنّ العبرة عنهم بما جاء من عند الله ، و ثبت عن رسول الله ، و ليس بالتيسير أو التشديد .
أخرج مسلم في كتاب الحج من صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : ( أنه كان يفتي بالمتعة فقال له رجُل : رويدك بعض فتياك ، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك ، فقال : يا أيها الناس : من كنا قد أفتيناه فتيا فليتئد ، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فأتموا ، قال : فقدم عمر ، فذكرت ذلك له ، فقال : أن تأخذ بكتاب الله فإن الله تعالى قال :  وَ أَتِمُّوُا الحَجَّ و العُمْرَةَ لله  [ البقرة: 196 ] ، و أن تأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى نحر الهدي ) .
و الأمثلة غير هذا في رجوعهم إلى الحقّ كثيرة ، فهل في دعاة اليوم من يلزم غرزَ السابقين ، و ينحو نحوَهُم ، فيقف عند الدليل ، و يرجع إليه إن بلغه ، و لو بعد حين ، و لا يجد غضاضةً في أن يقول : ( تلك على ما قضينا ، و هذه على ما نقضي ) ؟
رابعاً : كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم يدورون مع الدليل حيثُ دارَ ، فمنهم الميسِّر و منهم المشدد ، و لكن عن علم و بصيرة و دليل .
و كلُّهُم مِنْ رسولِ اللهِ مُقْتَبِـسٌ *** غرفاً مِنَ البَحرِ أو رَشْفاً مِنَ الدِيَمِ
و إن كان فيهم من يلتزم في عمله الأحوط في مقابل من يجنح إلى الأيسر ، و لكنّ الحامل لكلٍّ منهما على مذهبه لا يخرج عن الاستدلال بما ثبت عنده عن نبيِّ الهُدى صلى الله عليه وسلم .
و يحسن التمثيل لاختلاف آراء الصحابة في هذا الأمر بما كان عليه الصاحبان الإمامان : عبد الله بن عبّاس ، و عبد الله بن عمر رضي الله عنهم ، فقد كان ( أحدهما يميل إلى التشديد و الآخر إلى الترخيص و ذلك في غير مسألة ، و عبد الله بن عمر كان يأخذ من التشديدات بأشياء لا يوافقه عليها الصحابة فكان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمي من ذلك ، و كان إذا مسح رأسه أفرد أذنيه بماء جديد ، و كان يمنع من دخول الحمام ، و كان إذا دخله اغتسل منه ، و ابن عباس كان يدخل الحمام ، و كان ابن عمر يتيمم بضربتين ضربةٍ للوجه ، و ضربةٍ لليدين إلى المرفقين ، و لا يقتصر على ضربة واحدة ، و لا على الكفين ، و كان ابن عباس يخالفه ، و يقول : التيمم ضربةٌ للوجه ، و الكفين ، و كان ابن عمر يتوضأ من قُبلةِ امرأتِه ، و يُفتي بذلك ، و كان إذا قبل أولاده تمضمض ثم صلى ، و كان ابن عباس يقول : ما أبالي قبَّلتُها أو شممت ريحاناً ، و كان يأمر من ذكر أن عليه صلاة و هو في أخرى أن يُتِمَّها ، ثم يصلي الصلاة التي ذكرها ، ثم يعيد الصلاة التي كان فيها... و المقصود أن عبد الله بن عمر كان يسلك طريق التشديد و الاحتياط ) [ زاد المعاد : 2 / 47 و 48 ] .
قلتُ : و مع كلِّ ما كان يذهب إليه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من التشديد و لزوم الأحوَط ، لم يغمز قناته أحدٌ من السلف أو الخلف ، و لم يصمه أحدٌ بوصمة التعسير ، على وجه التخطئة و التنفير ، بل غاية ما ذَهَبَ إليه مخالفوه هو عدَم موافقته في تشديداته ، مع اعتبارها أمارةً على وَرَعه و حُسن اتّباعه ، و عُذر مَن ذهبَ مذهبَه من الأتباع ما داموا يدورون مع الدليل مدارَه .
و لم يكن يسعهم حتى تمني خلافه فضلاً عن تبريره أو تسويغ القول و العمل به .
قال أبو عبد الله الزركشي [ في المنثور : 1 / 20 ، 21 ] و هو يُعدِّدُ أنواع التمني و يعرض حكم الشرع في كلٍّ منها : السابع : تمني خلاف الأحكام الشرعية لمجرد التشهي ... قال الإمام الشافعي في ( الأم ) و قد روى عن عمر : ( لا يُسترق عربي ) قال الشافعي رحمه الله : لولا أنَّا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون هذا هكذا ، و كأنه أراد تغير الأحكام و لم يرد أن التمني كله حرام ) .
قلت : فلله درّهم ما أبرَّهم ، و ما أنبلهم حيث لا يسوّغون مجرّد كون الحرام حلالاً ، فضلاً عن تسويغه ، و الإفتاء بحلّه ، و لو كان بليّ أعناق النصوص ، و حشد الشواهد و الشواذ من كلّ رطبٍ و يابِسٍ ، من زلاّت المتقدّمين ، و هفولت المتأخّرين ، و سقطات المُتابِعين .
إنّها و الله الخشية من العَبدِ للمعبود ، فمن أو تِيَها فقد أوتِيَ خيراً كثيراً ، و هل العِلمُ إلاّ الخشية ، و ما مثل من كثر عِلمُه و قلّت خشيته إلا كمثل التاجر المدين ، تكثر بين يديه العروض ، ليس له منها شيء .


خاتمة

و بعد ، فقد آل بنا البحث عند ختامه إلى الحديث عن الخشية ، و هي جماع صفاة العالم الرباني ، تسوقه إلى الحقّ ، و تأطُرُه عليه أطراً .
قال صاحب الآداب الشرعيّة : ( و نقل المروزي عن أحمد أنه قيل له : لمن نسأل بعدك ؟ فقال: لعبد الوهاب يعني الوراق ، فقيل إنه ضيق العلم فقال : رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق .... و قال الأوزاعي كنا نمزح و نضحك ، فلما صرنا يقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسم ... و روى ابن بطة عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى : إن الفقه ليس بسعة الهذر و كثرة الرواية إنما الفقه خشية الله ... و قال الأوزاعي : بلغني أنه يقال : ويل للمتفقهين لغير العبادة , والمستحلين المحرمات بالشبهات ... و قال الشافعي رضي الله عنه : زينة العلم الورع و الحلم ، و قال أيضا لا يجْمُل العلم ، و لا يحسن إلا بثلاث خلال : تقوى الله , و إصابة السنة , و الخشية ) .
فما أحرى العاملين للإسلام ؛ دعاةً و فقهاء و مُفتين إن يقفوا على الحقّ ، و يقولوا به ، و يردّوا عِلمَ ما اختُلِفَ فيه إلى عالمه .
لتكون السبيل محجّةً بيضاء ؛ كتاباً و سنةً ، مع سلامةٍ في الصدر و المنهج .
ففي ذلك السلامة ، و النجاة من الندامة ، و هذا غاية ما أردت بيانه في رسالتي هذه ، باذلاً في طلب الحق و تقريبه للخلق وسعي ، فإن أصبت فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، و إن أخطأتُ فمِن نفسي و من الشيطان ، و اللهَ تعالى أسألُ أن يغفر زلّتي ، و يقيل عثرتي .

و أفوّض أمري إلى الله ، إنّ الله بصير بالعباد
و الحمد لله ربّ العالمين
و صلّى الله و سلّم على نبيّنا محمّد ، و آله ، و صحبه أجمعين

--------------------
(1) كان التدرّج في التشريع في زمن الوحي ، و انقطع بانقطاعه ، حيث أكمَلَّ الله دينه ، و أتمّ على عباده نعمته ، فقال : ( اليوم أكملتُ لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام ديناً ) فليس لأحد بعد ذلك أن يجاري الشارع الحكيم سبحانه في التدرّج في تبليغ حكم الله تعالى ، و حُكمِ رسولِه لحديثي العهد بالإسلام أو التوبة ، إذ إنّ الأحكام قد استقرّت على ما قضى الله و رسوله ، و بالله العصمة .

و كتب
أحمد بن عبد الكريم نجيب
( الملقّب بالشريف )
دَبْلِن ( إيرلندا ) في غرّة جمادى الآخرة عام 1423 للهجرة
الموافق العاشر من يوليو ( تمّوز ) عام 2002 للميلاد
http://www.saaid.net/Doat/Najeeb
alhaisam@msn.com