بسم الله الرحمن الرحيم

وقفه مع محمد السالم في الحكم بالقوانين الوضعية


هذا حوار ورد بيني وبين أحد الإخوان في الساحة العربية
الأخ / محمد وفقه الله
أقول قولا مختصرا وبسيطا معرضا عن الإكثار من النقولات ونقل الإجماعات
بل أسير على نفس مذهبك في نقل كلام بعض أهل العلم والتعليق عليه باختصار
ولست أفتح بذلك بابا للنقاش فالمشغول لا يشغل ولكن تنبيه وذكرى.
أقول :
الحكم بغير ما أنزل الله له صور متعددة منها ما هو من جملة المعاصي كما ذكرت ومنها ما هو كفر الإجماع .
أما الصور التي هي من جملة المعاصي فهذه التي يشترط لها الاستحلال أو الجحود أو فساد الاعتقاد وسيأتي بيانها من كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
أما الصور التي هي كفر بذاتها فلا يشترط لها الاستحلال أو الجحود كتحليل الحرام وتحريم الحلال على جهة التشريع فهذه من خصائص الرب سبحانه وتعالى : قال تعالى " إن الحكم إلا لله " ومنها تبديل الشرائع بالقوانين وتحكيمها والتحاكم إليها فهذا كفر بالإجماع .
قال ابن كثير رحمه الله : (( فمـن تـرك الشـرع المحكـم المنـزل علـى محمـد بن عبد الله خـاتم الأنبيـاء وتحـاكـم إلـى غيـره مــن  الشرائع المنسوخة كَفَر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كَفَر بإجماع المسلمين.))
وهذا التقسيم الذي قررته ليس من عندي أنا أو غيري من طلاب العلم بل هذا تقسيم كبار أهل العلم ، ومقتضى استعمال لفظ الحكم في الكتاب والسنة .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في جواب عن مسألة الحكم بغير ما أنزل الله
(( الحكم بغير ما أنزل الله ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول :
أن يُبطل حكم الله ليحل محله حكم أخر طاغوتي
بحيث يلغي الحكم بالشريعة بين الناس ، ويجعل بدله حكم آخر من وضع البشر كالذين يُنحون الأحكام الشرعية
في المعاملة بين الناس ، ويحلون محلها القوانين الوضعية ، فهذا لاشك أنه استبدال بشريعة الله سبحانه وتعالى غيرها
وهو كفر مخرج من الملة ؛ لأن هذا جعل نفسه بمنزلة الخالق حيث شرع لعباد الله ما لم يأذن به الله ، بل ما خالف حكم الله عز وجل وجعله الحكم الفاصل بين الخلق ، وقد سمى الله تعالى ذلك شركاً في قوله تعالى : {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } .
القسم الثاني :
أن تبقى أحكام الله عز و جل على ما هي عليه و تكون السلطة لها ، ويكون الحكم منوطاً بها ، ولكن يأتي حاكم من الحكام فيحكم بغير ما تقتضيه هذه الأحكام ، أي يحكم بغير ما أنزل الله ، فهذا له ثلاث حالات :
الحال الأولى : أن يحكم بما يخالف شريعة الله معتقداً أن ذلك أفضل من حكم الله وأنفع لعباد الله ، أو معتقداً
أنه مماثل لحكم الله عز وجل ، أو يعتقد أنه يجوز له الحكم بغير ما أنزل الله ، فهذا كفر . يخرج به الحاكم من الملة، لأنه لم يرض بحكم الله عز وجل ،ولم يجعل الله حكماً بين عباده .
الحال الثانية : أن يحكم بغير ما أنزل الله معتقداً أن حكم الله تعالى هو الأفضل والأنفع لعباده ، لكنه خرج عنه ، وهو يشعر بأنه عاص لله عز وجل إنما يريد الجور والظلم للمحكوم عليه ، لما بينه وبينه من عداوة ، فهو يحكم بغير ما أنزل الله لا كراهة لحكم الله ولا استبدال به ، ولا اعتقاد بأنه أي الحكم الذي حكم به أفضل من حكم الله أو مساو له أو أنه يجوز الحكم به ، لكن من أجل الإضرار بالمحكوم عليه حكم بغير ما أنزل الله ،ففي هذه الحال لا نقول إن هذا الحاكم كافر ، بل تقول إنه ظالم معتد جائر .
الحال الثالثة : أن يحكم بغير ما أنزل الله وهو يعتقد أن حكم الله تعالى هو الأفضل والأنفع لعباد الله ، وأنه بحكمه هذا عاص لله عز وجل ، لكنه حكم لهوى في نفسه ، لمصلحة تعود له أو للمحكوم له ، فهذا فسق وخروج عن طاعة الله عز وجل ، وعلى هذه الأحوال الثلاث يتنزل قول الله تعالى في ثلاث آيات :{ و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } وهذا يتنزل على الحالة الأولى { و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } يتنزل على الحالة الثانية { و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } يتنزل على الحالة الثالثة . )) فقه العبادات ص(60،61 )
فتأمل أخي كلام الشيخ رحمه الله حيث يقول عن القسم الأول ( ويحلون محلها القوانين الوضعية ، فهذا لاشك أنه استبدال بشريعة الله سبحانه وتعالى غيرها وهو كفر مخرج من الملة ؛ لأن هذا جعل نفسه بمنزلة الخالق حيث شرع لعباد الله ما لم يأذن به الله ، بل ما خالف حكم الله عز وجل )
فهذا تنصيص من الشيخ رحمه الله على كفر المبدلين للشرائع بالقوانين والمشرعين لها والشيخ رحمه الله له أقول كثيرة أكد فيها هذا المعنى ليس هذا مقام سردها.
فتأمل أخي كلامه رحمه الله حيث يقول عن القسم الثاني : ( أن تبقى أحكام الله عز و جل على ما هي عليه و تكون السلطة لها ، ويكون الحكم منوطاً بها)
وهذا توضيح بكلام صريح من الشيخ رحمه الله أن الصورة التي هي كفر دون كفر والتي يشترط لها الاستحلال أو الجحود أو فساد الاعتقاد هي ما وصفها الشيخ رحمه الله وهو الحاكم الملتزم بالشريعة والذي يرد جميع المنازعات إليها فهذا الذي كفره
( كفر دون كفر)، أما أن يشرع احكاما أو يبدل الشرع بالقوانين فهذا حكمه الكفر الكبر- قولا واحد- كما في القسم الأول وعلى هذا الإجماع السابق
فكونك أخي الكريم تختزل كل صور الحكم في سياق واحد وتجعلها جميعها من جملة المعاصي غير المكفرة هذه مغالطة كبيرة واستغفال للقارئ أربأ بك عنه .
والغلط الذي يقع فيه البعض ومنهم أخونا( محمد ) وفقه الله هو أن يجد لبعض أهل العلم كلاما على صورة " معينة " من صور الحكم يقرر فيها عدم الكفر إلا بشرط الاستحلال فينقلها ظنا منه أنها عامة في جميع الصور وأنها تعارض الإجماع المنقول على كفر بعض الصور الأخرى من الحكم بغير ما أنزل الله ! ‘‘‘ ولو اهتدى إلى أن كل صورة من صور الحكم يخصها حكم شرعي مختلف كما سبق من كلا م الشيخ ابن عثيمين رحمه الله لوفق لعدم الوقوع في هذا الإشكال ولعلم أن الأمة كما ذكر العلامة أحمد شاكر المحدث لم تبتلى بتشريع القوانين العامة في الأموال والدماء والأعراض بما يخالف شرع الله إلا في زمن التتار وفي وقتنا وزماننا هذا ‘‘‘ ولذا تجد كلام أهل العلم في غير هذه الأحوال مقتصرعلى الصورة التي كان من الممكن أن تحدث في ظل تحكيم الشريعة والتزام أحكامها ولكن لما حصل في زمن التتار هذا التبديل تكلم علماء زمانهم وكفروهم ونبذوهم ونقلوا الإجماع على ذلك ومنهم شيخ الاسلام ابن تيميه رحمه الله وابن القيم وابن كثير وغيرهم .
وهذا التقسيم من الشيخ ابن عثيمين رحمه الله والذي يؤكد فيه اختلاف صورة المشرع والمبدل عن صورة القضاء والتنفيذ مع التزام الحكم الشرعي قد سبقه إليه من قبله من المشائخ ومن معه :
منهم الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في رسالته تحكيم القوانين وغيرها من فتاواه وكذلك الشيخ المحدث العلامة أحمد شاكر في تعليقه على ابن كثير والشيخ محمود شاكر في تعليقه على الطبري وكذا الشيخ محمد حامد الفقي وهذا ما عليه علماء السعودية منهم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء حين أفتت في كتاب العنبري واعتبرت قوله بعدم كفر المشرع للأحكام إلا بشرط الاستحلال إفتراءا على أهل السنة والموقعين على الفتوى من خيرة العلماء في السعودية :
الشيخ صالح الفوزان مع ما سيتم نقله عنه غير هذا الشيخ بكر أبو زيد مع ما سيتم نقله من كلامه غير هذا الشيخ عبد العزيز آل الشيخ والشيخ الغديان وعلى نفس كلامهم باقي علماء المملكة :
الشيخ صالح آل الشيخ وزير الأوقاف
الشيخ عبد الرحمن البرا ك
الشيخ الغنيمان- الشيخ حمود بن عقلا الشعيبي- الشيخ عبد الرحمن المحمود والشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله -والشيخ ابن جبرين- والشيخ عبد العزيز الراجحي- والشيخ سعد آل الحميد حفظ الله الحي منهم ورحم الميت
وغيرهم كثير جدا من إخوانهم من العلماء الذين لم أذكرهم وطلاب العلم أكثر من هؤلاء المشائخ بكثير والحمد لله
وقولك أخي الكريم بعد ذلك :
( وأما مسألة الاستبدال التي هي أم مسائل العصر فهي عند المتأخرين على خلاف فيما بينهم ) !
أقول:
قولك هذا يوهم أن هذه الصورة خارجة عن مسائل الحكم بغير ما أنزل الله وهي مسألة تشريع الأحكام وتحكيم غير الشريعة
وهذه الصورة التي تسميها استبدالا.. تشتمل في ذاتها على مناطات متعددة منها : تشريع الأحكام ( التحليل والتحريم ) وكذا( تحكيم غير الشريعة) و
( ترك التحاكم إليها) ولا يخفى على اللبيب أن هذه من أوضح صور الحكم بغير ما أنزل الله وهذا هو القسم الأول من كلام الشيخ بن عثيمين رحمه الله وهذا ينقض قولك أعلاه أن الحكم بغير ما أنزل الله ( جملة ) من جملة المعاصي غير المكفرة!!!
فهذا إجمال باطل لا شك فيه وخلاف لما عليه أهل العلم الذي سبق ذكر أسماء بعضهم . وكذا ينقض كلام بعضهم ممن يهرف وينقل الإجماع على أن الحكم بغير ما أنزل الله جملة وبكل صوره هو ( كفر دون كفر)
واخيرا أقول :
أما الشيخ الألباني رحمه الله فخطأه ظاهر والمأخذ عليه رحمه الله ليس على نتيجة قوله أن الحكم بغير ما أنزل الله بكل صوره ( كفر دون كفر ) فهذا أقصاه أنه اجتهاد خطأ منه رحمه الله نسأل الله أن يغفره له ويثيبه عليه،
بل المأخذ على الشيخ رحمه الله وأسكنه فسيح جناته هو التأصيل الذي تناول به وبنى عليه المسألة وغيرها من المسائل وهو
أن الكفر كفران:
كفر عمل لا يخرج من الملة
وكفر اعتقاد يخرج من الملة ‘‘‘‘‘ وعليه تناول رحمه الله كثير من المسائل الحكم وغيرها من صور الكفر وهذه زلة عالم وكبوة فارس ولكل جواد كبوة وإن
كان هناك من يقول أن الشيخ رحمه الله قد رجع عن ذلك فلله الحمد والمنة ولكن تناوله للمسألة كان من هذا لتأصيل .
أما الشيخ ابن باز رحمه الله فهو أولا له في هذه المسألة قولان وأظن أنه لا يخفى على الإخوان أقواله ولا أجدني مضطرا لنقلها ‘
ولكن الذي يظهر لي أن الشيخ رحمه الله توفي على القول بعدم كفر الحكام
بالقوانين الوضعية إلا بشرط الاستحلال والذي يتأمل أقواله في هذه المسألة رحمه الله والتي يشترط فيها الاستحلال يجد أن الشيخ رحمه الله لم يأتي بأدلة جديده ولم يرد شيئا مما أورد عليه ولذا لم يرجع أحدا ممن كان يناقشه سواء كان الشيخ ابن جبرين رحمه الله أو غيره إلى قوله ، ولكنا نقول إن موقف الشيخ رحمه الله رغم أنه أخطأ فيه ,,إلا أنه يختلف عن موقف الشيخ الألباني رحمه الله من جهة التـأصيل كما سبق الكلام عليه
فالشيخ نظر للمسالة من جهة توارد الأدلة عليها ,, من كلام ابن عباس رضي الله عنه وغير ذلك مما هو منقوض وموجه من أهل العلم- ليس هذا موضع طرحه - من غير أن يسبقه بتأصيل باطل كما فعل الإمام المجدد رحمه الله ..................هذا ما أدين الله به والله أعلم
وحيث أقول أخطأ الشيخان رحمهما الله فأقول إن هذا ليس من عندي بل قام بتخطئتهما العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في تقريظه على كلام الشيخ الألباني رحمه الله وتقديم ابن باز له حيث قال بلفظ واضح وصريح :
[ كلام الشيخ الألباني هذا جيد جداً(( لكنا قد نخالفه في مسألة أنه لا يحكم بكفرهم إلا إذا اعتقدوا حلَّ ذلك،!
هذه المسألة تحتاج إلى نظر !
، لأنا نقول : من حكم بحكم الله وهو يعتقد أن حكم غير الله أولى فهو كافر –وإن حكم بحكم الله- وكفره كفر عقيدة! ، لكن كلامنا عن العمل ! ، ))] ا .هـ
فتأمل قوله رحمه الله : (( لكنا قد نخالفه في مسألة أنه لا يحكم بكفرهم إلا إذا اعتقدوا حلَّ ذلك )) ثم قوله (( لكن كلامنا عن العمل )) هذه العبارات الواضحة والصريحة التي تقطع الشك باليقين أن الشيخ رحمه الله يخالف الألباني وبالتالي أبن باز رحمهما الله و يكفر الحكام بالقوانين الوضعية بمجرد العمل ،
بل الشيخ رحمه الله على فرض صحة القول بالكفر بشرط الاستحلال فهم كفار عنده وانظر في نفس السياق قوله رحمه الله :
(( وفي ظني أنه لا يمكن لأحدٍ أن يطبق قانوناً مخالفاً للشرع يحكم فيه في عباد الله إلا وهو يستحله ويعتقد أنه خير من القانون الشرعي، فهو كافر ، هذا هو الظاهر وإلا فما حمله على ذلك...))
فهل هناك وضوح أكثر من هذا ؟؟؟ فهو يقول للشيخ الألباني رحمه الله إن هذا الحاكم كافر حتى على شرط الاستحلال وهذا بحكم الضرورة والجبلة الفطرية والتي تقضي أن من رفع شيئا ووضع آخر مكانه فهو بالضرورة يعتقد فضل ما وضع عما رفع !
وهذا الذي قاله الشيخ ابن عثيمين رحمه الله هو ما عليه إخوانه من المشائخ وطلبه العلم من جمهور علماء المملكة السعودية فوصف هؤلاء بأنهم خوارج تعديا فاحشا وجرأة علي عباد الله الصالحين وسوء طوية بخلاف من يناقش أقوالهم بعلم وأدب حتى وإن خطأهم و بحسب المجتهد في الأدلة أن يدين الله بما يصل إليه وبحسب المقلد أن يقلد في دينه من يثق في علمه وورعه والله الموفق والهادي على سواء السبيل
هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

كتبه : أبو عبدالرحمن الباشا