صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الإنفاق والإمساك

فوزي سعيد

 
مقدمة :

بيان أن معني زكاة القلب : نموه وصلاحه وطهارته واتساعه وانفساحه .
يُقال : زكا الزرع : إذا نما وترعرع .
النفس تبع للقلب ، فإذا زكا القلب وكبر ؛ زكت النفس وكبرت ، وصارت ذات مكانه وحجم وقدر كبير لا نسبة للبدن بجوارها ، إذ لا قيمة لهذا البدن الصغير المحدود إلا بحمله للنفس الكبيرة الطاهرة الزاكية – أما إذا حُرم القلب من ذلك بل صغر ومرض فإن النفس تندس وتختفي في البدن وتنقمع وتنقبر فلا يكون لها أثر إلا علي مستوي شهوات البدن ، كما قال تعالي:
" قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" وهذا النوع صاحبه كالحيوان ؛ بل أضل ، بخلاف النوع الأول الذين يتخذ الله منهم الشهداء والأحبة واتخذ الله إبراهيم خليلا ، واتخذ محمدا خليلا ، وهذا صحابي أنصاري جليل هو سعد بن معاذ رضي الله عنه ، أهتز العرش لموته ؛ فرحاً بقدومه ، والعرش موصوف في القرآن بأنه العظيم والكريم والمجيد وهو أعظم المخلوقات وأنورها وأمجدها ، فإذا كان الكرسي وسع السماوات والأرض فإنه بالنسبة للعرش كحلقة في فلاه ومع ذلك أهتز لموت سعد الذي عاش في الإسلام ست سنوات فقط ؛ ذلك لأنه تزكي والسماء والأرض تبكيان علي الصالحين " موضع السجود وموضع صعود العمل " وفي النهاية يسكن في جوار رب العالمين فِي " جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ" فأين هذا النوع من النوع الثاني الذي لم يستعمل قلبه ونفسه إلا في شهوات بدنه كأقل من الحيوان .
وقال تعالي :
" قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى " بمعني : قد أفلح من غذي قلبه بالغذاء النافع بإتباع الرسول صلي الله عليه وسلم ، فطهره من ذنوبه وزكاه بذكر الله والصلاة ، وقال تعالي :" اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى ..." يعني : هل لك إلي أن تطهر قلبك وتنميه لتحيا به حياة طيبة ؟ وكذلك قوله تعالي :" وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى " .
وإنفاق المال في سبيل الله تعالي ومراضية ، لهو من أعظم الأعمال المغذية والمزكية للقلب ، قال تعالي :" الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى " وقال تعالي :" خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ..." فالصدقة تطهر القلب من آثار الذنوب وتغذيها فتزكو ، بل هي السقيا لكل ما ينزرع في القلب من الأعمال ، ولهذا المعني تسمي الصدقة الواجبة في المال : زكاة : أي نماء وزيادة واتساع في القلب مع طهارته ، ثم نماء في المال فضلاً من الله .
الإنسان في الدنيا له نوعان من الحياة :
(1) حياة البدن المعروفة والتي يشترك في جنسها الإنسان والحيوان والطير والوحش وغير ذلك ، وتعتمد هذه الحياة " الروح والبدن " علي جريان الدم في العروق بالأغذية وغير ذلك ، يدفعها قلب البدن " الأذين الأيمن ، والأيسر ، والبطين الأيمن ، والأيسر"وهو المضغة المعروفة التي إذا صلحت صلح لها الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله وهي ملكة الأعضاء في الإنسان وغيره .
(2) حياة الروح والقلب ، قال تعالي :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ..." يعني يحييكم الحياة الطيبة والتي لا تكون إلا بتغذية القلب ، وتزكيته بعبادة الله ، والتي خلق الله من أجلها ، فحياة القلب بالاستجابة لله وللرسول ، وبالتالي يكون موته بفقد ذلك . وقال تعالي :" إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا ... " فالانتفاع بالقرآن والإنذار به إنما يحصل لمن كان حي القلب ، وكذلك جعل سبحانه وحيه الذي يلقيه إلي الأنبياء روحاً تحيا به القلوب .وقال تعالي :" يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ " وقال :" وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا " ولذلك شبه سبحانه من لا يستجيب لرسوله بأصحاب القبور ، لأن قلوبهم قد ماتت فقُبرت في أبدانهم حيث لا وظيفة لها ولا دور إلا في خدمة شهوات الأبدان ، قال تعالي :" إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ " . وهذا القلب يختلف تماماً عن قلب الجسد ، ولكنه القلب المتعلق بالروح ، وهو غيب لا نعلم عنه شيئاً إلا بالخبر الصادق عن الله ورسوله صلي الله عليه وسلم في القرآن والسنة ، قال تعالي :" إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ... " ولا يصح أن يكون القلب المذكور في الآية هو قلب البدن أي : المضغة المعروفة ، لأن كل الناس لهم هذه المضغة وأكثرهم كفار وفسقة لا يتذكرون ، وإنما يصح فقط أن يكون القلب المذكور هو القلب المتعلق بالروح . وأيضاً الشهداء معروف عنهم أنهم أحياء عند ربهم يُرزقون حيث تكون أرواحهم وقلوبهم في حواصل طير خضر ترعي في الجنة ثم تأوي إلي قناديل معلقة بالعرش ، في حين أن أبدانهم قد بُليت بما فيها قلوبها . والأدلة علي الفروق بين قلب الروح وقلب البدن كثيرة ، وسنذكر بعض الخصائص الهامة لقلب الروح كما يلي :
(أ) مكانه في الصدور كما قال تعالي :" فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَْبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" يعني في نفس منطقة الجسد .
(ب) يتضمن معني الفؤاد واللب والفطرة والعقل والنهي والحجره ؛ وهو آلة التفكر والتذكر والتصور والنية والقصد والإرادة والمحبة والخوف والخشية والبغض والكراهه والصبر والعجلة والرضي والسخط والانقياد والكبر والكفر والشكر وغير ذلك مما يدور في باطن الإنسان .
(ج) يُقاس القلب علي البدن من وجوه كثيرة منها حياته وموته ومرضه وشفاؤه ، منها حاجة البدن وضرورته إلي الغذاء النافع ويتألم بالجوع والعطش بحسب شدته ، حتى إذا فقد الغذاء والشراب تماماً اضطر صاحبه إلي الإغتذاء والسقيا بالأغذية والأشربة الفاسدة ، ولو كان في ذلك حتفه وموته ، والرئة لا بد لها من التنفس بالأكسوجين فإن لم تجده تنفست بما حولها ضرورة ولو كانت بالغاز السام ، فكذلك القلب يحتاج ضرورة بالغة إلي الغذاء النافع " الوحي المُنزل والإستجابه له " ويتألم بفقده إلي أن يضطر إلي الغذاء الفاسد " عبادة الهوي والشيطان " الذي يتألم به جداً حتى يموت به ويقبرنه في البدن . ولذلك فإن حاجة الخلق إلي ربهم في عبادتهم إياه ، ومحبته وتأليههم له أشد وأعظم بكثير من حاجتهم إليه في خلقه لهم ورزقه لهم وستر عوراتهم وتأمين روعاتهم . وليس في الكائنات شيء غير الله عز وجل يسكن القلب إليه ويطمئن بذكره ، ويأنس به ، ويتنعم بالتوجه إليه .
(د) قد يموت القلب وصاحبه لا يشعر بموته ، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح ، ولا يوجعه جهله بالحق ، وعقائده الباطلة ، فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم . روي مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :" تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ "
(ر) الغذاء النافع للقلب هو العبادة الصحيحة يعني : الأيمان والقرآن والعمل به ، فما من عمل صالح يعمله الإنسان بقلبه أو بلسانه أو بجوارحه إلا ويتغذي به القلب وينمو ويتسع ويكبر ويزكو ، ولا تتوقف زكاته حتى يتوقف العمل الصالح ، وهذه عجيبة في الخلق يختص بها هذا القلب ، بخلاف البدن الذي ينمو مع الغذاء والتَّرَيُّض ، ولكن إلي حدود لا ينمو بعدها ، أما الغذاء الفاسد فهو العبادة للشيطان وطاعته ، كالكفر والفسوق والعصيان ، فالقلب لا يزكو بذلك بل علي العكس يمرض وينكمش ويختفي ويندس فلا يظهر له أثر إلا في شهوات بدنه كالحيوان فمعيشة هذا النوع من الناس هي المعيشة الضنك ، قال تعالي :" وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ... " بخلاف النوع الأول فله من الحياة الطيبة بقدر زكاة قلبه ، يعني علي قدر الأغذية الصالحة التي يتناولها ، قال تعالي :" مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ " حيث أن قلبه يذوق طعم الأيمان ويجد حلاوته ويسكن ويطمئن للحق وينتهج ويلتذ لأنه يحقق ما خُلق من أجله من الاتصال بالله وعبادته ، وهكذا خلق الله القلوب ولكن أكثر الناس في غفلة معرضون فلا يعلمون شيئاً عن ذلك القلب ولا عن غذائه ولا عن لذاته وآلامه .
(ى) صاحب المعيشة الضنك تنعدم عنده السكينة والطمأنينة ولا يشم رائحة الثقة بالله ، والاعتماد عليه ، والتفويض إليه ، والرضا به ، وبقضائه ؛ بل لا يجد إلا القلق ، والريب ، والجزع ، والتسخط ، وعدم الرضا ، ويأتيه الغم والهم ألواناً ، وتتلاحق عليه الآلام النفسية التي لا يعرف لها مصدراً ولا علاجاً ، وأخطرها استغاثة وصراخ القلب طالباً للغذاء النافع وشاكياً من الغذاء الفاسد " هكذا خُلق القلب " ولكن صاحبه لا يعرف شيئاً عن ذلك ، بل قلبه مغمور بشهوات البدن ، غافل بذلك عما خُلق من أجله ، ولكنه يجد الآلام التي لا توقف لها ولا نهاية ، فيحاول أن ينساها فلا يجد سبيلاً لذلك إلا بما يزيل به عقله كالخمر أو الرقص أو الموسيقي الصاخبة جداً أو الاستغراق الشديد في الشهوات أو الانهماك المرهق المتواصل في الأشغال ، كل ذلك حتى لا يفيق ليفكر في هذه الآلام التي يجدها ولا يعرف لها مصدراً ولا علاجاً . ألا فليحمد المؤمن ربه علي نعمة الإسلام وهدايته به للحياة الطيبة في الدنيا والآخرة .

الترغيب في الإنفاق في سبيل الله والترهيب من الإمساك

طوبى لمن وقاه الله شح نفسه وآتاه الجود والسخاء والكرم والصبر علي ذلك ، طوبى لمن آتاه مالاً فوفقه لإنفاقه في مراضيه سبحانه بالشرع لا بالهوى والعواطف. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا " رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد . فهذا الرجل الغني الذي لا يتوقف عن الصدقة التي تقع موقعها الحق ، كما في الحديث الآخر :" فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ " فعينه دائماً علي ماله ، يريد أن يهلكه في أبوابه الحق. فعلي كل مسلم أن يغبط هذا الرجل ويتمني أن يكون مثله موُفقاً ، صاحب قلب قوي ثابت عند إخراج الصدقة لا يرتجف ولا تتردد يداه ، ولا يتبعها بصره ولا يتبعها بمّن ولا أذى ولا يرائي الناس ولا يريد منهم جزاء ولا شكورا ، قال تعالي :" مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ "عليم بحال المنفق وإخلاصه وصدقه ، وعليم بحال النفقة هل هي طيبة أم خبيثة ، وعليم بموقعها فيما يرضي الله أو يغضبه ، لأن الصدقه لا تجوز علي من يستعملها أو يستعين بها علي المعصية .
الله تعالي واسع في عطائه ومثوبته واسع في رحمته وعفوه ومغفرته ، واسع في كرمه وإحسانه ، واسع في عزته وكمالاته ، يعطي بالدرهم سبعمائة ثم يضاعف العطاء أكثر من ذلك إلي ملايين الأضعاف حيث يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ "حسن برقم (3606) في صحيح الجامع. والمعني كما بينه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن الفقير التقي الذي ليس عنده إلا درهمين فعمد إلي نصف ما معه وهو درهم واحد فأنفقه لله فكان هذا الدرهم عند الله أكثر من صدقة رجل غني عنده مليون درهم فعمد إلي عشر ما معه وهو مائة ألف درهم فأنفقها لله ، فالذي سبق هو صاحب الدرهم لأن الله عليم يعلم أن هذا الفقير قد آتي ما معه مع حبه له وحاجته إلي درهمه ، هذا كما في الحديث الصحيح " أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا قَالَ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ " رواه البخاري ومسلم . أي مع رغبته الشديدة في المال وحاجته الملحة إليه وقلة ما في يده فقد أنفقه ثقة بالله تعالي وحباً له وتقرباً إليه ، فالله تعالي واسع عليم ، في الحديث الصحيح :" مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ " رواه البخاري وأحمد ، يعني ملايين الأضعاف .
قال تعالي :" وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ " والشكر هو الاعتراف بالنعمة والثناء علي الله بها والإنفاق منها في سبيله .أما الزيادة من الله تعالي فهي واسعة : زيادة في النعمة ، وزيادة التوفيق في شكرها ، وزيادة الحياة الطيبة بها "من صلاح البال ، وسكينة النفس وطمأنينة القلب ، والرضى والقناعة مع الأيمان بالقدر وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن " .

أما كفر النعمة فعذاب الله شديد في الدنيا والآخرة ، ومن أمثلة عذاب الدنيا ما يلي :
1- الحرمان من الحياة الطيبة ، وإحلال المعيشة الضنك محلها .
2- ذهاب النعمة أو حشوها بالأنكاد والمنغصات .
3- محق البركة فيها فلا تستعمل في شيء إلا كان وبالاً عليه ، فتتسلط عليه امرأته ويصير ولده عدو له ، أو يضيع بالمخدرات والعلاقات النسائية وغير ذلك ، أو يقع في خلطة محترفي الإجرام والنصب ثم يتسلطون عليه ويذيقونه من القهر والذل ألواناً تنتهي به إلي حياة السجون وآلاف الأنواع من العذاب التي نراها في دنيا البخلاء الذين يكنزون الذهب والفضة والأموال ، ولا ينفقونها في سبيل الله .
قال تعالي :
" وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ " وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا " رواه البخاري ومسلم ، فإن كنا نؤمن برسول الله حق الأيمان ونصدقه فماذا ننتظر ؟ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ " رواه البخاري ومسلم .
وفي الحديث :" ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ " رواه أحمد الترمذي ، صحيح(3024) في صحيح الجامع . الرسول يقسم فهل نصدقه ؟
وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسلم لأَسْمَاءَ بنت أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا" لاَ تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ" وفي رواية " لاَ تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ"رواه البخاري ومسلم .
الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينصح ذات النطاقين بنت الصديق وأم عبد الله بن الزبير وهو مثل أبيه من أعظم المقاتلين في سبيل الله في التاريخ ، ويعظها أن لا تُغلق كيسها عن الصدقة خشية أن يُغلق الله عليها - إذ الجزاء من جنس العمل- كما ينصحها أن لا تحصي الصدقات حتى تقول كفي خشية أن يُحصي الله عليها ويقول كفي ما أعطيناها .
فإذا كان هذا الوعيد " بالإيكاء والإيعاء " لأسماء صاحبة الدرجات العلي والتي كانت تحمل الطعام للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ولأبيها في الغار ، فهل لا نعتبر نحن بهذا ، إذا كنا نطمع أن يزيدنا الله من عطاياه وإكرامه مع قلة أعمالنا الصالحة !!!
قال تعالي :" وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ… " يعني إن أمسكتم عن الإنفاق فقد ألقيتم أنفسكم بأيدكم إلي التهلكة . فماذا تنتظر بعد ذلك يا صاحب المال ؟ هل تفرح بتخزينه للورثه لتضمن سعادتهم بعدك ؟ فأعلم أن سعادتهم بيد الله وحده ولا تكون إلا بالحياة الطيبة المشروطة بالعمل الصالح ، وبغير ذلك ليس إلا المعيشة الضنك . والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول :" أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ قَالَ فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ " وأعلم أن ما عند الله أضمن للورثه مما عندك ، قال تعالي :" وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا " وفي الأثر أن أبا حازم الصحابي الجليل لما حضرته المنية قال له أصحابه ماذا أبقيت لأبنائك – وقد أنفق ماله لله – قال : ادخرت مالي لنفسي عند ربي وادخرت ربي لأبنائي ، وقال مالك بن أنس لما حضرت المنية عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حصروا تركته فوجدوها سبعة عشر درهما فقالوا ماذا أبقيت لأبنائك يا أمير المؤمنين ، فقال : أبنائي أحد أثنين إما صالحون فالله يتولي الصالحون ، وإما عصاه فلا أعطي مال الله لعاصي فيستعين به علي معصية الله . قال مالك : لقد رأيت أحد أبناء عمر بن عبد العزيز بعد موت عمر يجهز جيشاً للمسلمين من ماله الحلال وقد سخر الله تعالي نبيين أحدهما من أولي العزم من الرسل وهو نبي الله موسى عليه السلام ومعه الخضر لبناء جدار كاد يقع وتحته كنز ليتيمين أبوهما صالحاً في قرية عُرف أهلها بالبخل والظلم إنقاذاً للكنز حتى يكبر اليتيمان ويستخرجا كنزهما – قال الله تعالي : " وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ " .
فضمان مستقبل الأبناء بطاعة الله وتقواه والإنفاق في سبيله وليس بكنز المال وحجبه ظناً من البخيل أن مستقبل الأبناء بالمال وحده . ومن الشواهد علي ذلك قصة البقرة الواردة في أطول سورة من سور القرآن ومفادها أن عبداً صالحاً من عباد الله حضرته المنية وله ولد صغير وليس له من المال إلا بقرة ففوض لله أمره وقال اللهم إني استودعتك بقرتي لولدي فلما مات تكفل الله تعالي بالبقرة والغلام ، ولما عنت بنو إسرائيل شدد الله عليهم وحصر أوصاف البقرة في بقرة الغلام حتى ساوموه علي شرائها وقبلوا صاغرين شرائها بوزنها ذهباً .
ولقد ضرب الله ورسوله الأمثال في الكتاب والسنة بالمتصدق والبخيل ، منها مثلٌ عجيب ضربه الرسول صلي الله عليه وسلم بالبهيمة آكلة العشب والنباتات الحريفة "كالحندقوق" ولها مذاق تغتر به البهيمة فتأكل كثيراً بلا توقف ولا إخراج ، وتنتفخ البطن ، ويتورم الجسد ، ويحدث التسمم وتموت ؛ فذلك مثل الممسك الذي لا يُقاوم شهوة المال فيظل يجمعه بلا توقف ولا إخراج شيء من حق الله فيه ، فيتسمم قلبه شيء فشيء حتى يموت . ويبقي بدنه حياً كحياة البهائم ويعيش المعيشة الضنك كما سبق بيانه .
ومثل المنفق كالبهيمة آكلة النباتات الخضراء النافعة ، فهي تأكل حتى إذا امتلأت خاصرتها :"أي شبعت شبعاً بسيطاً طبيعياً" توقفت عن الأكل واستراحت وأستقبلت عين الشمس "تستمتع بها" وجعلت تجتر وتهضم ما أكلت ثم ثلطت و بالت "أي أخرجت فضلات الطعام والشراب" ثم عادت فرتعت "أكلت" وهكذا المنفق يجمع المال ثم يتوقف ليستقبل ما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم من الوحي ليخرج حق الفقير والمسكين وغير ذلك ثم يعود فيجمع المال وهكذا يستمتع بالمال الحلال ويأخذ نصيبه ويخرج الحقوق قبل أن تسمم قلبه فتقتله ، وبذلك يحيا الحياة الطيبة التي وعد الله بها .

أنواع من التعذيب يوم القيامة علي الإمساك والبخل :

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ" وفي لفظ " إِلَّا جُعِلَ لَهُ شُجَاعٌ أَقْرَعُ يَتْبَعُهُ يَفِرُّ مِنْهُ وَهُوَ يَتْبَعُهُ فَيَقُولُ أَنَا كَنْزُكَ ثُمَّ قَرَأَ مِصْدَاقَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " رواه البخاري وأحمد .

وفي حديث آخر :" إِلَّا تَحَوَّلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَتْبَعُ صَاحِبَهُ حَيْثُمَا ذَهَبَ وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ وَيُقَالُ هَذَا مَالُكَ الَّذِي كُنْتَ تَبْخَلُ بِهِ فَإِذَا رَأَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي فِيهِ فَجَعَلَ يَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ " وفي رواية " فَيُلْقِمُهُ يَدَهُ فَيَقْضَمُهَا ثُمَّ يُتْبِعُهُ بِسَائِرِ جَسَدِهِ " وقال تعالي وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ" ، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ " رواه مسلم وأحمد .

وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفَيْهِ وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيَيْهِ يَتَزَلْزَلُ " رواه مسلم وأحمد ، ويكون ذلك بعد دخول النار ، بعد ما سبق ذكره من العذاب والرعب الشديد في يوم (خمسين ألف سنة) قبل دخول الجنة .

وعلي من كان مؤمناً برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصدقاً بأخباره ، عليه أن يًُدرك نفسه قبل فوات الأوان ، وأن لا يلتفت إلي أصحاب الكنوز من المنافقين الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، والذين غضب الله عليهم وقال فيهم :" فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ " وقال :" وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ " فهؤلاء ما أعطاهم الله الأموال إلا ليُهينهم ويُعذبهم بها ، لا لكرامتهم عليه فهم محرومون من الحياة الطيبة ، غارقون في المعيشة الضنك ، فهم يشقّون في تحصيلها بدنياً ونفسياً ، ويخافون زوالها أو نقصها والغم والهم عندهم كثير ،وآلامهم أضعاف أضعاف لذاتهم فلا تجد أتعب ممن الدنيا أكبر همه ، وهو حريص بجهده كله علي تحصيلها.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ " رواه الترمذي ،صحيح (6516) في صحيح الجامع . فتشتيت الشمل ، وتفريق القلب ، وكون الفقر نصب عيني العبد لهو من أبلغ العذاب في الدنيا حيث لا يشم شيئاً من الرضي أو السكينة والطمأنينة . أضف إلي ذلك تحمل أنكاد الدنيا ومحاربة أهلها ، ومقاساة معاداتهم ، ثم نجد أن محب الدنيا لا ينال منها شيئاً إلا طمحت نفسه إلي ما فوقه كما قال النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا " رواه البخاري ومسلم ، فلا يزال فقيراً بائساً هلوعاً جزوعاً ، ثم قد يأتيه من الجوائح التي تجتاح ماله بسطوٍ أو بحرقٍ أو غرقٍ أو هدمٍ وغير ذلك كثير . وذلك عذابٌ شديد ، وكما ذكر الله تعالي في قصة أصحاب الجنة الأرضية إذ أقسموا ليحصُدنها مبّكرين ، ولا يُخرجون منها شيئاً للمساكين فقدّر الله تعالي لها التحريق والدمار ثم قال تعالي :" كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ " ونختم هذا الترهيب بقاصمة الظهر لغير المنفقين ، حيث الرسول فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ يَقُولُ هُمْ الْأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ هُمْ الْأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ قُلْتُ مَا شَأْنِي أَيُرَى فِيَّ شَيْءٌ مَا شَأْنِي فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ فَمَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَسْكُتَ وَتَغَشَّانِي مَا شَاءَ اللَّهُ فَقُلْتُ مَنْ هُمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَقَلِيلٌ مَا هُمْ " رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي ، يعني إلا من أنفق بيديه في وجوه الخير متي حضرت ، دون حصر الإنفاق في باب واحد من أبواب البر كما جاء في رواية أخري :" إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمْ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ خَيْرًا فَنَفَحَ فِيهِ يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ وَعَمِلَ فِيهِ خَيْرًا " يعني بوضوح صاحب المال ليس خاسراً فحسب ؛ بل الأخسر في الدنيا والآخرة إلا من أنتبه واستعد لمواجهة الفتنة بإتباع الرسل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِم وَسَلَّمَ .

أما بعد فيا أخي الكريم :
إنه لا يكون عاقلاً إلا من عرف الخير فطلبه ، والشر فتركه . فالتاجر علي سبيل المثال إذا عرف معرفة جازمة أن السلعة الفلانية ستدر عليه ربحاً سريعاً مُضاعفاً بلا مخاطرة ، وهو يقدر عليها ، فإنه لا يتأخر ولا يتردد عن المتاجرة بها إلا بنقصان في العقل أو بسهو أو بغفلة .
وكذلك إذا عرف أن الضرر الأكيد سيصيبه إذا ألقي بماله في البحر ، أو سقط من مكان عال ، أو في نهر يُغرقه أو دخل ناراً متأججة ، فإنه لن يُقبل علي هذه المخاطرة اليقينية أبداً إلا أن يكون مجنوناً أو ساهياً أو غافلاً .
فكذلك الأمر في التجارة مع الله عز وجل ، وعاقبة الإنفاق وعقوبات الإمساك دنيا وآخره . فمن كان موقناً بذلك فليسارع في الخيرات ، فإذ لم يفعل فأين الخلل ؟؟؟ وكيف العلاج ؟؟؟
الجواب :
(1) أن يكون غير متصور لحقائق ما أخبرت به النصوص ، الخبر الصحيح عن طول يوم القيامة
" خمسين ألف سنة " وما فيه من مكابدة الكي علي الجبهة والجنب والظهر بصفائح أُحميّ عليها في نار جهنم ، ومن مكابدة ثعبان شرس شجاع لا يتقهقر ، أقرع قد ذهب شعر رأسه من شدة سمه ، وحجمه ومنظره مرعب وهو يقضم يد الكانز حتى يأخذ بشدقيه ويُطوقه ، ولا مفر منه ولا ملجأ . وتستمر هذه المكابدة والمهانة آلاف السنين !!
فمن الذي يُؤثر شيئاً من ذلك الخزي والعذاب المهين إلا أن يكون غير متصور لما سيكون ، مع أنه قد يعلم الأخبار لكن لا يتصورها كأنه يراها تحدث له .
(2) أن يكون متصوراً لها لكنه يظن أن هذه العقوبات لا تكون لمثله لأنه ينطق الشهادتين ، ومن قال لا إله إلا الله دخل الجنة ، فيظن الجاهل أنه داخل للجنة بلا عذاب . فعدم التصور جهل شديد وهذا الظن جهل أشد .
(3) أن يكون متصوراً أن هذه العقوبات لأمثاله لكنه يرجو العفو بحسنات أخري "لأعمال أخري " أو بتوبة أو بعفو من الله بغير أسباب منه ، وهذا مغرور بالأماني ،وهذا أيضاً من الجهل .
(4) أو يغفل عن هذا كله ، فلا يستحضر التحريم ولا العقوبة ، فيكون غافل ، والغفلة من آضاد العلم ، فيكون جاهلاً أيضاً ، ومن المعلوم أن أكثر ما يوقع الناس في السيئات هذه الأنواع من الجهل كما قال الصحابة : كل من عصي الله فهو جاهل .
كما قال يوسف عليه السلام :" وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ " إذ الوقوع في السوء والفحشاء " مع العلم بالتحريم " جهل ، لأنه نقص في تمام العلم لأن الله يسمع ويري ، وأن الكرام الكاتبين يعلمون ما يفعل ، وأن العقوبة قد تأتي عاجلة أو آجله ، ولو كان العلم تآماً ما كان عصي . وأساس هذا النوع من الجهل هو قلة الخوف من الله لقلة العلم لأنه تعالي السميع العليم ، البصير الرقيب ، المقيت الرزاق ، ذو القوة المتين ، الوكيل علي كل شيء ، النافع الضآر بيده ملكوت كل شيء ، وهو يُجير ولا يُجار عليه ، له ما في السماوات وما في الأرض ، هذه الأموال ملكه ، ورزقه يبسطه لمن يشاء يُقدر ، لو شاء لذهب بها أو بأصحابها أو بهما معاً ، ولو شاء لقذفهم بالعمي والصمم ، أو بمرض يأكل كل شيء حتى لا يجدوا ثمن الدواء … وهو الله لا إلا هو له الأسماء الحسني ، قال تعالي :" سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى " وقال :" إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى " وقال :" فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ " وقال :" إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ " وقال :" ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ " وقال :" وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا " وقال :" وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى " وقال :" إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء " وقال ابن مسعود رضي الله عنه :" كفي بخشية الله علماً ، وكفي بالاغترار به جهلاً " فالعلم بالله يُثمر المحبة له ، والخوف منه ، فإذا نقص ذلك العلم نقص الإيمان والمحبة والخوف بحسبه ، وضعف القلب فلا يقوي علي إخراج الصدقة ، وتغلبه الشهوات ، وأخطرها شهوة المال ، وتستحكم أمراض القلوب مثل الشح ، والحرص ، والبخل ، والحسد ، وغيرها ، مما يفتك بالقلب ويفسده حتى لا يُرجي معها شفاء كما في الحديث :"إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ " رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب ، ضعيف(2344) في ضعيف الجامع ، الشح المُطاع هو الحرص الشديد الذي يأمر بالبخل والظلم والقطيعة فيصبح صاحبة منّاعاً للخير ، كارهاً له وذلك فساد في قوة البغض والعياذ بالله . والهوي المُتبع : هو إرادة الشر ومحبته " وذلك فساد في قوة الحب " والإعجاب بالرأي فساد في قوة العقل والعلم ، فلا يتبقى في القلب خير بعد ذلك ، بعد فساد هذه القوي الثلاثة : قوة الحب ، وقوة البغض ، وقوة العقل . وعندئذٍ لا تنفع معه التذكرة ولا تجدي معه شيئاً إلا أن يشاء الله .
ألا فليبادر المسلم بالطاعات والمسارعة في فعل الخيرات ليستنقذ قلبه من السقوط في تلك الهاوية .
(5) البلاء العظيم إنما يكون من الشيطان الذي يستغل الجهل فيزين السيئات ويأمر بها ، وله في ذلك خطوات وكيد ، كما فعل إبليس مع آدم ، وحواء " قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى " ، " وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ " . والشيطان أشد ما يكون همه عندما يهم العبد بالخير عموماً ، وبالإنفاق في الخير خصوصاً " لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ " وفي الحديث :" مَا يُخْرِجُ رَجُلٌ شَيْئًا مِنْ الصَّدَقَةِ حَتَّى يَفُكَّ عَنْهَا لَحْيَيْ سَبْعِينَ شَيْطَانًا "رواه أحمد ، صحيح(5814) في صحيح الجامع ، أو كما قال صلي الله عليه وسلم ، وقال تعالي :" الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا " .
يقول الشيطان للمنفقين : إذا أنفقتم أموالكم كما يأمركم دينكم فإن أموالكم ستظل في تناقص حتى الفقر ، وأنتم لا تضمنون ظروفكم من مرض ، أو جائحه ، أو حادثة ، وأبنائكم أولي ، ويحتاجون عند الزواج وغيره فأمسكوا مالكم وأدخروه ، وهكذا يأمر بالبخل فهو الخصلة الفحشاء والشنعاء ، والله تعالي يعدكم علي الإنفاق في وجوه الخير مغفرة منه " أي وقاية ونجاة من شر ذنوبكم ، يعني من المصائب والعذاب في الدنيا والآخرة ، ومن ذلك الجوائح التي تجتاح أموالكم ومصارع السوء " فإذا غفر فقد جعل لكم وداً بينه وبينكم ، فهو الغفور الودود . وهذا الود هو حقيقة الحياة الطيبة كما سبق ، كما يعدكم فضلاً منه بزيادة في نعمته عليكم بالمال والصحة وصلاح البال وحفظ الأهل والذرية ، والتوفيق في الصالحات وستر العورات ، والتثبيت علي الحق ، والنعيم المقيم في الآخرة ، والله في مغفرته وفضله واسع عليم يعُطي بسعته ، وعلمه الخير الكثير للمنفقين ، ومن أعظم ذلك إيتاء الحكمة وهي العلم بالحق والعمل به ، والانقياد لمن تنزلت عليه الحكمة صلي الله عليه وسلم .

طوبي لك أيها المنفق من مالك الطيب في الوجوه الطيبة ، لكن من الذي يتذكر ؟.. إنهم أولو الألباب فقط الذين سلمت قلوبهم من أمراضها ، ومن فتنة الشهوات والشبهات ، وهم أصحاب الصراط المستقيم ، أما العلاج فباختصار شديد كما يلي :
أولاً : أتحاذ الشيطان عدواً متربصاً يُريد إشقاء المستجيبين له والفتك بهم دنيا ودينا كما قال تعالي :" إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ " وقال :" يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ … " وقال :" وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً " فكيف نغفل عن عدونا المتربص الذي يرانا من حيث لا نراه ، ولا يدع غفلة إلا وظفها في عداوته بل يجب ألا نتنفس إلا ونحن في حذر شديد من عدو لدود لا يدع الغافل حتى يورده المهالك . وعلينا أن نذكر ماذا يفعل العاقل إذا كان العدو من الناس يتربص به في الخفاء .
ثانياً : الاستعاذة بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، كما أمر في كتابه وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ، إستعاذه حقيقية ، كما يفعل طفل قد رأي ثعباناً يُهاجمه أو سبعاً يريد افتراسه ، حيث يفر الطفل بسرعة ويهرب ويلجأ إلي أبيه ويلتصق بصدره بشدة يحتمي به من عدوه ، فكذلك استعاذة المسلم بالله السميع العليم ، وفي حديث أَبَي هُرَيْرَةَ عند أحمد وأبي داود والترمذي أن أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال :"يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ وَإِذَا أَخَذْتُ مَضْجَعِي" قَالَ :" قُلْ اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَهُ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى وَإِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ " صحيح(4402) في صحيح الجامع ، فإذا كان الصدّيق بهذه المثابة في حاجته للاستعاذة صباحاً و مساءاً ،وبهذه الصيغة القوية ، متوسلاً بصفات الله علي هذا النحو ! فكيف بنا وحالنا لا يخفي علي أحد ؟ إن حاجتنا إلي الإستعاذه ليس لها حدود ، لما علمناه من قبل بأن الشيطان أحرص ما يكون بالإنسان عندما يهم بالخير ، خصوصاً عند قراءة القرآن ، قال تعالي :" فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " وقال :" وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " وسورة كاملة خاصة بالأستعاذه منه وهي سورة الناس ، آخر سورة في القرآن ، وفيها التوسل بالتوحيد وإصول الأسماء الحسني " الرب ، الملك ، الإله " .
ثالثاً : تعلم التوحيد ، فإن التوحيد علم يجب تعلمه ، قال تعالي :" فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " وهو العاصم الأساسي من الشيطان وبغيره يقع الإنسان في أنواع من الشرك كما يحدث عند القبور التي أتُخذت مساجد ، من الذبح لغير الله ، والنذر ، والدعاء ، والإستغاثه ، والاستشفاء ، والطواف حول القبر تعظيماً كتعظيم الكعبة ، وكذلك من أنواع الشرك الأكبر والأصغر ما يحدث من هجر شريعة الملك الحكم الحق ، والتحاكم إلي غيرها من قوانين وشرائع البشر ، قال تعالي :" فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا " وقال :" وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ " فإذا وقع المسلم في نوع شرك فإنه يصير فريسة سهلة للشيطان يتسلط عليه ويخطط له حتى يجعله من أوليائه ، قال تعالي :" فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ " وقال :" كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ " فبالإيمان والإخلاص والتوكل الحق ينتفي سلطان الشيطان تماماً ، ولكن بتوليه وطاعته يكون له سلطان فعند ذلك يأمر بالبخل فيُطاع ، ويأمر بالإنفاق في التعاون علي الإثم والعدوان فيُطاع ، أما المؤمن الموحد المخلص المتوكل فلا سلطان للشيطان عليه .
رابعاً : الإكثار من الطاعات والمسارعة في الخيرات ، فإن ذلك يزيد الإيمان و تستقيم الأمور كما سبق ، ومن أهم ذلك : مداومة الذكر قياماً وقعوداً وعلي جنبه ، وكُتب الأذكار متوفرة والحمد لله ، بشرط موآطأة القلب مع اللسان حتى يكون ذكراً حقيقياً يخنس معه الشيطان ، والذكر هو حصن المسلم ، الذي يتحصن به من عدوه ، وقراءة القرآن مع بذل الجهد للتدبر والفهم لهو من أعظم الذكر ، وكذلك الصلاة وأذكارها والصوم والحج والإنفاق وكل العبادات لا تصح إلا بذكر الله ،ولقد صنف ابن القيم رحمه الله كتاباً عظيماً من جزأين في مكائد الشيطان لأبن آدم سماه " إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان " والموضوع واسع جداً ، وإنما ذُكرت منه بعض المعاني والأمثلة المناسبة لهذه الموعظة العاجلة .

سؤال : هل في المال حق سوى الزكاة ؟ ؛ لأن كثيراً من أصحاب الأموال يكتفون بالزكاة معتقدين أنه لا يجب عليهم غيرها ؟
الجواب : ذلك من الجهل الذي يوافق هوي البخيل فيبرر به بخله بل في المال حقوق كثيرة سوي زكاة المال المفروضة ، فإذا لم تكف الزكاة مصارفها الثمانية المعروفة ، أصبح توفية ذلك فرضاً من فروض الكفاية لو قام بها أحدهم سقط عن الباقين ، فإذا لم يقم به أحد أثم الجميع ، والجهاد بالمال والنفس في سبيل الله من أفرض الفروض ، وذلك لا يقتصر علي الزكاة ، ولو وجد المسكين في قرية أهلها قادرون علي الإنفاق ثم لم يقضوا حاجته إلا أثموا جميعاً ويُسألون عنة يوم القيامة " مع أنهم أخرجوا زكاة أموالهم من قبل " قال تعالي :" وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ " وذلك بخلاف الحق المعلوم في الآية الأخرى ، وفي الحديث :" لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ "رواه أحمد وأبو داود ، ضعيف (4746) في ضعيف الجامع . وقال تعالي :" فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ " وفي الحديث :" ما آمن بي من بات شبعان و جاره جائع إلى جنبه و هو يعلم به "صحيح (5505)في صحيح الجامع ، ومعني قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما آمن بي : أي لا يكون مؤمناً حقاً أتي بجميع الواجبات وأنتهي عن جميع المحرمات ، وذلك لأن إطعام الجار الجائع واجب مع القدرة ، فمن لم يفعل فقد فرط في واجب عليه فلا يكون مؤمناً حقاً وإنما يكون مسلماً فقط .
ومن أقوي الأدلة قوله تعالي في آية البر :
" لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ …" فجمع سبحانه في الآية بين إيتاء المال علي حبه للمصارف المذكورة ، وإيتاء الزكاة . فهذا حق في المال سوي الزكاة .
وقوله تعالي :" عَلَى حُبِّهِ " تكرر في قوله :
" وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا " والمعني : علي حب المال للاحتياج إليه في كماليات أو أساسيات ، أو لأنه مال نفيس يحبه جداً كقطعة أرض أو مسكن زائد أو سيارة زائدة وهكذا ، لكنه أشد حباً لله ، لأن حبه للمال ولغيره لا يكون إلا لله للاستعانة به علي عبادته ومراضيه ، فهو حب تابع لحب الله . قال تعالي :" لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ "
ولما سمعها الأصحاب رضي الله عنهم أتي بعضهم بأنفس ما عندهم وتركوها لرسول الله يتصرف فيها لله ، يقول أحدهم : فإني سمعت الله يقول :
" لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى … " ومنهم أبو طلحة كان له قطعة أرض مقابلة لمسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كان يشرب من ماء فيه طيب ، فكم تكون قيمة هذه الأرض ، ومع ذلك أنفقها أبو طلحة لينال البر .
وفي الحديث الصحيح :" عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ قِيلَ أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ يَعْتَمِلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ قَالَ قِيلَ أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ قَالَ يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ قَالَ قِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ قَالَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ الْخَيْرِ قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ يُمْسِكُ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ " رواه البخاري ومسلم وأحمد .
فيا عجباً للأغنياء لا يتركون شيئاً من الترف والكماليات لهم ولذويهم إلا فعلوها ومع ذلك يرون أبناء وأطفال المسلمين لا تكف دموعهم مما وقع عليهم من الفقر والقهر والظلم ، ثم يقولون لقد أخرجنا زكاة المال !!
ويا ليتهم يخرجونها فعلاً بحساب صحيح ، وإنما كما يقولون " بالبركة " ، ثم يُجاملون ويُحابون بهذه الزكاة ، وليست ملكهم ، ثم لا يهتمون بما جاء به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يتعلق بالأموال وحقوقها . هذا علي فرض أنهم جمعوا المال من حله . فلا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم .

احصل على نسخة من موضوع على ملف وورد مع تعليقات الشيخ محمد عبد المقصود
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
العمل الخيري
  • العمل الخيري
  • العمل التطوعي
  • وسائل وافكار
  • الإنـفــاق
  • حصار العمل الخيري
  • مـنـوعــات
  • الصفحة الرئيسية